مع أنّ اعتذار رئيس ​الحكومة​ المكلَّف ​مصطفى أديب​ كان متوقَّعاً منذ اليوم الأول، بعدما لوّح به مراراً وتكراراً كلما كان يصطدم بصعوبات ومعوّقات تمنعه من إنجاز مهمّته، كما يريد، إلا أنّه جاء "مفاجئاً" للكثير من المعنيّين.

لعلّ ما يؤكّد منطق "المفاجأة" هذا يكمن في "التسريبات" التي كان يتداولها البعض قبيل الاعتذار، وتضع مجرّد التلويح بالخطوة في خانة "التهويل والترهيب" ليس إلا، وهو ما أدّى أصلاً إلى زيادة "التصلّب"، بعيداً عن أيّ "ليونة" مطلوبة.

بيد أنّ ما لم يكن في حسبان البعض حصل في النهاية، واعتذر أديب عن إنجاز مهمّته، اعتذارٌ تفاوتت "مقاربته" بين الأوساط السياسية، وسط إجماعٍ على أنّ "المبادرة الفرنسية" قد تكون ضحيّته الأولى، هي التي كانت "تترنّح" أصلاً قبله.

لكن، ماذا لو حصل العكس، خصوصاً بعد المؤتمر الصحافي للرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، والذي رفض فيه إعلان "الاستسلام"؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن يتحوّل "الاعتذار" من "نقمة" إلى "نعمة" تعيد "إنعاش" المبادرة، وربما إحياءها؟!.

ضربة كبرى...

في القراءة الواقعية والمنطقية، لا شكّ أنّ "اعتذار" مصطفى أديب شكّل ضربة كبرى للمبادرة الفرنسية، ومعها لكلّ الجهود المبذولة لتشكيل حكومة تطوي صفحة سابقتها، وما عانته من حصار وويلات، وتعبر بالبلاد لمرحلةٍ جديدةٍ، تعوّض قليلاً ما فات.

يكفي أن يكون هذا "الاعتذار" قد أرجئ أكثر من مرّة، بضغطٍ من الفرنسيّ وغيره، وترافق مع "مبادرات" وضعها أصحابها في خانة "​الانتحار​ السياسي"، من دون أن تفرز "تقدّماً نوعياً" على خط ​تأليف الحكومة​، للدلالة على عمق "​الأزمة​" التي وصلت إليها البلاد.

ويُضاف إلى ذلك، "الهجوم" الذي شنّه "بالمباشر" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على القادة السياسيين اللبنانيين، وصولاً إلى حدّ إعلان شعوره بـ"العار" من تصرّفاتهم صراحةً، للتأكيد على أنّ الجراح التي أصابت المبادرة ليست من النوع "الطفيف" أبداً، بل إنّ "عمقها" يتخطّى المدى المسموح به.

وينطلق البعض من كلّ هذه المعطيات، ليخلصوا إلى أنّ "اعتذار" أديب لا ينبئ سوى بالمجهول، وربما بانطلاق الرحلة نحو "جهنّم" التي حذّر منها ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ الأسبوع الماضي، علماً أنّ مواقف ما بعد "الاعتذار" جاءت لتزيد "الطين بلّة"، وقد أظهرت أنّ أحداً ليس بوارد "تليين" موقفه، أياً كانت العواقب.

ويلفت العارفون في هذا السياق، إلى أنّ أحداً من المعنيّين لم يتلُ فعل "الندامة" على ما اقترفت يداه، ليصل إلى مرحلة "التوبة" أساساً، بعد "التفريط" بالمبادرة الفرنسية، التي أجمع الفرقاء على كونها "الفرصة الأخيرة" المُتاحة لهم، بل إنّهم بمجملهم كرّروا ثابتة واحدة عنوانها "لا نزال على موقفنا".

احتمالٌ واردٌ!

لكن، على رغم الصورة "القاتمة" التي أفرزها "اعتذار" أديب، والمواقف الأولية التي انبثقت عنه، ثمّة من لا يزال يعوّل على "انقلابٍ" في الصورة، يمكن أن يحوّل الاعتذار إلى "نعمة"، عبر تحريك ​المياه​ الحكوميّة التي بقيت "جامدة" في الأيام الأخيرة، على رغم الحراك الذي رُصِد على أكثر من خطّ ومستوى.

وينطلق "المتفائلون" بهذا المسار من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، الذي "تعمّد" أن يوازي بين "السقف العالي" الذي استخدمه في مخاطبة القادة السياسيين، وحديثه عن "خيانة جماعية" ارتكبوها بحقّ ​الشعب اللبناني​ أولاً وأخيراً، وبين رفضه إعلان "الفشل"، وصولاً إلى "تمديد" العمل بمبادرته، لستّة أسابيع مقبلة، وهي فترةٌ تتخطّى موعد ​الانتخابات الرئاسية​ الأميركية المُنتظَرة، في خطوةٍ لها دلالاتها "الرمزيّة" الواسعة.

وإذا كان صحيحاً أنّ الرئيس الفرنسيّ ينطلق في "عدم استسلامه" من مصالحه الخاصّة، هو الذي سيشكّل "انسحابه" اليوم ضربةً له شخصياً، في عزّ "المعارك" التي يخوضها في شرق المتوسط، وتحديداً مع الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​، فإنّ ثمّة من يقول إنّ على اللبنانيين الاستفادة من هذه "الفرصة"، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة نظر بشروطهم "التفاوضيّة"، و"تليينها" بما يتناسب مع اللحظة الراهنة، بعيداً عن أساليب "​المحاصصة​" التقليدية، التي طبعت مرحلة "التكليف" الأخير، وكأنّ شيئاً لم يكُن.

ويذهب البعض أبعد من ذلك، باعتبار "اعتذار" رئيس الحكومة المكلف بمثابة "صدمة" يمكنها أن تكون "إيجابية" في تغيير الصورة الحكوميّة، لجهة تغليب معادلة "لا غالب ولا مغلوب" التي حاول البعض "القفز" فوقها. ويقول هؤلاء إنّ "الاعتذار" جاء ليضرب في الصميم "استقواء" البعض ممّن كانوا يستخفّون بالفكرة، ولا يعتقدون أنها ممكنة، بما يفرض عليهم اليوم الذهاب لمقاربة أكثر واقعية، خصوصاً أنّ الخيارات "البديلة" غير ذي جدوى، وعلى رأسها "تعويم" حكومة حسّان دياب، والتي عانت في أيام "عزّها"، فكيف بالحريّ اليوم، إذا ما أعلِن "موت" المبادرة الفرنسيّة، وضُرِب بالتالي المسعى "الإنقاذيّ" الوحيد.

المشكلة-المصيبة!

مع "اعتذار" أديب، عادت الأمور مبدئياً إلى النقطة الصفر، بل إلى ما تحتها، مع عودة البعض إلى الحديث عن أنّ "التوافق" على اسم رئيس حكومة جديد قد يكون "بعيد المنال"، وأنّ رؤساء الحكومات السابقين قد لا يقدّمون لائحة أسماء، كما فعلوا في المرّة السابقة.

وجاءت مواقف القوى السياسية ما بعد "الاعتذار" لتؤكد هذا المنحى، علماً أنّ الرهان على أن يغيّر "اعتذار" من تصلّب بعض الأطراف، ممّن لم يؤثر بهم انفجارٌ بحجم ذلك الذي دمّر نصف العاصمة في الرابع من آب الماضي، يبدو "مقامرة" في ​السياسة​ في أحسن الأحوال.

لكن، رغم ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ "الاعتذار" يمكن أن يكون "فاتحة" لمقاربة جديدة تؤسّس على ما تقدّم، لفتح "صفحة جديدة" قد يكون من شأنهاالتمهيد لـ "تسوية" جديدة، بناءً على المبادرة الفرنسية التي لم تنتهِ مفاعيلها بعد.

بيد أنّ المشكلة، أو ربما "المصيبة"، تكمن في أنّ كلّ ذلك يبقى "رهن" الطبقة السياسية بكامل عتادها وعديدها، الطبقة التي برهنت في الأسابيع الماضية عن تمسّك بـ"أطلال" ماضي "المحاصصة"، ورفضٍ لأيّ "مسٍّ" بها، والتي لا يُعتقَد أنّها "ستلين" بسهولة...