«وكنتم أعبدا أولاد غيل بني آمرن على الفساد

لقد أسمعت لو ناديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نار نفختُ بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد»

عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي

كثيرة هي الأمثال الشعبية عمّن يفقد الفرصة ليقوم بالشيء ولا يُقدم إلّا بعد فوات الأوان، يعني أنه، بعد أن يفشل، يحاول استدراك ما فاته، فلا يجد إليه سبيلاً.

أشهر النوادر تلك الدعاية التي ظهرت يوماً في التلفزيون عندما أطلّ رجل فقد أسنانه ليقول: «هلّق عم تحكيلي على الليسترين؟»، على أساس أنّ الليسترين كان يمكنه أن يمنع تساقط الأسنان لو أنّ الرجل علم به منذ وقت ما سابق لتساقط أسنانه. لكن لا أحد يعلم أصلاً إن كان الليسترين فعلاً يمنع تساقط أسنان ذاك الرجل بالذات، أم أنّ تساقط أسنانه سببه أمر آخر مَرضي أو بنيوي فيه بالذات. ولا أحد يعلم في أي عمر كان عليه أن يستعمله وكيف حتى يتجنّب تساقط الأسنان.

وبالتأكيد، فحتى لو علم صاحبنا بالليسترين، أو أنّ أحداً ما نصحه به، فهذا لا يعني بالتالي أنه سيذهب فوراً لشرائه واستعماله حسب الأصول. لكن ما هو مطلوب من الأساس هو العناية بالأسنان منذ البداية، بغضّ النظر عما هو محتمل حدوثه، فحتى ولو كان سقوط الأسنان حتمياً لسبب ما غير العناية بها، فإنّ هذه العناية كانت في الأساس ستحسّن من الوضع وتؤخّر المحتوم، وتتجنّب الأسباب الأخرى للمرض!

بعد سماعي، البارحة، كلام الرئيس المكلوم ماكرون، ما فاجأني هو إعلانه عن خيبة أمله من القادة اللبنانيين، وهو العليم بالحال، ومع صغر سنه، لكن لا بد أنّ مخابرات بلده كانت قد شرحت له واقع هؤلاء القادة وعدم قدرتهم على تغيير نهج متواطئ مع الجماهير، هو الذي جعل منهم قادة. فلا داعي للتعبير عن خيبة الأمل لأنها ستكون بالتأكيد محاولة غير ناجحة لدفع من خاب الرجاء فيهم لِيستحوا، في حين أنهم لم يستحوا لا البارحة ولا قبله، ولو استحوا لَما كانت هناك حاجة لرئيس فرنسا أن يأتي من قصر الاليزيه ليسكن قصر الصنوبر في محاولة لتجربة الليسترين على من تخلخلت أسنانه!

«حزب الله» سمع الكلام ولن يعيره أيّ اهتمام، فـ»ليسترينه» يأتي فقط من طهران، حتى وإن كان لم يصرح له للاستعمال رسمياً، مثل تلك العقارات التي تسرّبت على حين غفلة إلى الأسواق بهدف دعم المقاومة. وقد يقول نصر الله شيئاً في خطابه بهذا الخصوص، تقية أو دفاعاً أو هجوماً. فالقضية مرتبطة حصراً بما يصدر عن الولي الفقيه، وحده من دون شركاء، فلا دخل للغير بشؤون المستعمرة.

أمّا السيد الجنرال، رئيس الجمهورية، راعي الدستور، والحكم والحكيم، المتفاجئ من كلام ماكرون، سمعته لأول مرة منذ أيام يتحدث بكلام دستوري واضح. لا بل أكثر من ذلك، فقد ذهب لقراءة النص بشكل مباشر من على الأوراق التي وضعت بين يديه. قال إنه لا يوجد أي شيء دستوري في مطالبة طائفة أو جهة حزبية بحقيبة ما كحق مكتسب لها، وهو كلام حق، وما أحوَجنا إلى من ينطق بالحق اليوم في عز أزمتنا القاتلة، ونحن نترنّح على حافة هاوية جهنم، كما صرّح الرئيس. لكنّ الحق المتأخّر مثله مثل الباطل عندما يأتي بوقته، عندما يفوت الزمن ويحدث الباطل ما يحدثه من ضرر، فلا يعود لقول الحق أي تأثير على ما حصل.

فمن يتحدث عن الدستور ويعطي النصائح لا يكسر الدستور باتفاقات تشرّع السلاح خارج الدستور ويتغاضى عن خرق السيادة واستباحة الحدود والموانئ والمعابر والمطار من قبل الميليشيات المسلحة والممولة من دولة أجنبية. ومن حمل هم الدستور لا يقبل بأن يعطّل تأليف الحكومات وهو يقول باستهتار «لعيون صهري ما تتألف حكومة». ومن أراد المحافظة على الدستور وحفظ تداول السلطات واحترام موقع الرئاسة الأولى، ما كان ليعطّل انتخاب الرئيس من أجل شخصه، وكأنّ البلاد لا تحتاج لرئيس أصلاً، أي سيّان إن كان أم لم يكن هناك رئيس. ومن أراد الحفاظ على هيبة الدولة ما كان تعامل باستهتار فاضح مع الجرائم المتتالية بحق قادة وسياسيين وأمنيين أصبح مَن اغتالهم معروفاً للقاصي والداني، وبقي الرئيس على تحالفه معهم. ومن هو رئيس يحافظ على العهود لا يتنكّر لها عند وصوله لما يريد، فينكر على من اتفق معه حقوقه. ومن هو مؤتمَن على الدستور لا يطرد الإعلام أو يقفل أبواب قصر الشعب أمامهم، وكأنه ملكه الخاص. ومن كان حامي الدستور ما كان يعطي ولي عهده الفرصة للتنكيل بكل شيء حتى وصل الناس إلى أبواب جهنم.

قد يكون من الظلم بمكان أن نحصر مسؤولية ما وصلنا إليه برئيس الجمهورية وحده، فهو جزء من كل، والكل يعني الكل، أي المسؤولين والشعب على حد سواء! لكن ليس من حق رئيس الجمهورية أن يخرج ليقول إن لا دخل له بما يحصل، أو أنهم لم «يخلّوه» أن يقوم بواجباته، وبدل أن يَعد الناس بجهنم، عليه أن يتنحّى ليعطي فرصة لِمن يعد الناس بفرصة في المطهر على الأقل. لذلك، فلست أدري كيف يعود ويرحّب بمبادرة فرنسية اتهمته هو مع سائر السياسيين بتعطيل مبادرة هي النافذة الوحيدة المعروضة اليوم لتجنّب جهنم. برأيي انه تعلّم ما يكفي من التقية من الحلفاء ليقول «إنّ السماء تمطر، ليس إلّا!».