خرج الصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ من بعده المحلي بين ​أرمينيا​ و​أذربيجان​، ليتحوّل إلى عامل عدم استقرار إقليمي ودولي. فكلّما عادت المواجهة في هذا الإقليم، تبدأ الدول بالإنشغال فيه لما له من أهمية عند العواصم الكبرى.

أعاد اشتعال النزاع بين أذربيجان وأرمينيا إلى الواجهة خريطة التحالفات الإقليمية والدعم الدولي المقدم لكل منهما، خصوصًا أنه يتزامن مع الكثير من الأزمات في المنطقة.

اختلفت دول المنطقة في تعاطيها مع هذه الأزمة، فمنها من دعم بشكل علني بالسلاح والجنود (كدعم تركيا لأذربجيان)، ومنها من عمل على البحث على حلّ لهذه الأزمة، ليس بهدف إنهاء المشكلة، بل بهدف حماية مصالحها. وهذا ما فعلته الجمهورية الإسلامية في ​إيران​، بعد أن أعلن المتحدث باسم خارجيتها سعيد خطيب زاده أن بلاده تتابع النزاعات العسكرية في الإقليم، مؤكداً الإستعداد لتقديم كل الإمكانيات لوقف إطلاق النار بين البلدين وبدء الحوار.

فما سبب رمادية الموقف الإيراني، ولماذا تحاول طهران إنهاء هذه الأزمة؟.

نظرة تاريخية

إيران، الدولة الحدودية مع أرمينيا وأذربيجان، تربطها مع البلدين تاريخاً طويلاً يعود إلى أكثر من مئة عام. في بداية القرن التاسع عشر، وفي عهد الدولة القاجارية في إيران، كانت الإمبراطورية الإيرانية أكثر إمتداداً من اليوم، وكانت تضم أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وغيرها من دول المنطقة.

بعد الحرب الروسية-الفارسية بين عامي 1826-1828، وخسارة الدولة القاجارية، أجبرت الإمبراطورية الفارسية على توقيع اتفاقية تركمانشاي وهي معاهدة سلام وقعت في بلدة "تركمانشاي" الإيرانية. نصت المعاهدة على أن تتنازل الدولة القاجارية عن إقليمي "إيروان" و"نخجوان" لصالح روسيا (والتي تضم البلدان المذكورة) وأن تلتزم إيران بدفع 20 مليون روبل تعويضات لروسيا كما منحت المعاهدة لروسيا العديد من الامتيازات والحقوق الاقتصادية والجمركية. وُضِعت الحدود بين روسيا وفارس حينها عند نهر أراس، وخسرت حينها إيران تلك الأراضي التي تضم ما هو اليوم أرمينيا، والأجزاء الجنوبية من جمهورية أذربيجان الحالية.

بالعودة إلى إقليم ناغورنو كاراباخ الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقليّة أذريَّة، فقد خضع لسيطرة روسيا القيصريّة في نهايات القرن التاسع عشر، ثم أُلحق بعد الثورة البلشفيّة بجمهورية أذربيجان متمتّعا بحكم ذاتي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. ومع مطالبات الاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلة عام 1991، ألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حربًا ضد المجموعات الأرمنية الانفصالية، توسَّعت لتصبح حربًا مع أرمينيا التي قدمت لهم الدعم العسكري واللوجستي.

نَجَمَ عن الحرب التي استمرت بين 1992-1994 خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لِستِّ مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها، فضلًا عن سقوط 30000 قتيل وتهجير ما يقارب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من الأذريين.

لم تنته الحرب باتفاق سلام نهائي يحل المشكلة رغم اعتبار الأمم المتحدة أرمينيا دولة محتلة لأراض أذرية، كما أنشأت منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) مجموعة "مينسك" بعضوية كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود حلِّ مشكلة الإقليم دون إنجازات تُذكَر. لذلك فقد تجدد الصراع لأكثر من مرة، لتكون المواجهات التي بدأت في الأيام الماضية أقوى مواجهات عسكرية بين أذربيجان وأرمينيا منذ 22 عامًا(1).

البعد العرقي

تتنوّع الأعراق في إيران، ويعتبر العرقان الفارسي والأذري الأكبر في البلاد. إضافة إلى ذلك، تتواجد في الجمهوريّة الاسلامية أقلية أرمنية يتراوح عددها بين 150 و300 ألف نسمة تتمركز في مدن الرئيسيّة (طهران وتبريز وأرومية وأصفهان). ويُعتبر الأرمن أكبر أقلية عرقيّة مسيحيّة فيها، ويتحدثون اللغة الأرمنيّة جنبًا إلى جنب اللغة الفارسيّة واللغة الأذريّة.

أمّا العرقية الاذريّة، والتي تشكل قرابة 25% من السكان، ليسوا بأقليّة تطالب بحقوق ثقافيّة او انفصال مثل العرب والاكراد والبلوش، بل هم من أساس التاريخ الإيراني. اسماعيل الصفوي، وهو من العرق الأذري، هو مؤسس الدولة الصفويّة "الشيعيّة" والذي اعتمد اللغة الفارسيّة بشكل رسميّ، وهي القاعدة التي لا تزال مستمرة في البلاد.

في الجمهورية الإسلامية الحاليّة، أبرز القادة هم من العرق الأذريّ، مثل المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الايرانيّة اللواء محمد باقري.

البعد السياسي

منذ العام 1992، تاريخ الحرب في الإقليم، حاولت إيران أن تلعب دور الوسيط بشكل دائم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، بسبب الضغوط الإقليمية.

الخبير في الشؤون الدولية في صحيفة "آرمان ملى" الإصلاحية، حسن هاني زادة أرجع سبب فشل كافة المحاولات لجمع البلدين للتحاور إلى الدور السلبي الذي تلعبه بعض دول المنطقة المتنافسة فيما بينها، "والّتي تسعى لتوسيع دائرة الصراع من الإقليم لتشمل غرب آسيا بالكامل".

وأكد هاني زاده أن "استمرار الحرب وتوسعها سيجبر دول المنطقة من تركيا وإيران وحتى روسيا على الدخول فيها وهذا ما يبرر الجهود الإيرانية الرامية لإيقاف الحرب والوصول الى اتفاق دائم يمنع إعادة استغلال هذه المنطقة كنقطة توتر".

ورأى الخبير الإيراني أن "كلًا من انقرة وموسكو لا مصلحة لأي منهما اليوم بالدخول في حرب مباشرة، لأنها ستتحول الى حرب عالميّة"، لافتاً إلى أن "تكتفيان في الحرب بالوكالة، والتي ستؤدّي الى استنزاف قدرات باكو ويريفان".

من هنا، تظهر خطابات المسؤولين الإيرانيين الذين يحاولون البحث عن التهدئة ودعوة الدول في المنطقة إلى عدم استثمار الأزمة.

فقد انطلقت السياسة الإيرانية تجاه منطقة القوقاز من عدة اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية، وتمكنت إيران خلالها من بناء علاقات جيدة مع دول هذه المنطقة ولاسيما مع أرمينيا، التي وسّعت من علاقاتها وتعاونها معها حتى وصلت الى مرحلة الشراكة، على النقيض من العلاقات الإيرانية–الأذربيجانية. هذه الأخيرة اتسمت في معظم الأوقات بالتوتر وعدم الاستقرار، بسبب القضايا والمشاكل بينهما ولاسيما قضية تقاسم ثروات بحر قزوين، والاذريين في إيران.

رغم ذلك سعت إيران باتجاه الانفتاح نحو أذربيجان وتحسين العلاقات معها، بهدف استثمار ثرواتها النفطية في بحر قزوين، وقد خضعت علاقات طهران مع دول منطقة القوقاز لتأثير التنافس الإقليمي والدولي، وصراع فرض النفوذ لاسيما بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، ومحاولات الهيمنة والحصول على أكبر مشاريع الاستثمار الاقتصاديّة في هذه المنطقة.

يأتي العامل الأمني بالدرجة الأساس في علاقات واهتمام إيران بهذه الجمهوريّات، فمنطقة الشرق الأوسط عموما ومنطقة وسط آسيا والقوقاز بثرواتها وموقعها الاستراتيجي هي محط أنظار العالم، وتعيش وضعا غير مستقر. وفي هذا المحيط المتأرجح تُعد إيران الحلقة الأضعف على اعتبار إن جمهوريات القوقاز مدعومة من روسيا الاتحادية، كما إن دول الخليج العربيّة وتركيا تحصل على دعم غربي للدخول في هذا الصراع، لهذا تحاول مدّ نفوذها في هذه الدول خدمة لمصالحها الأمنية.

إضافة إلى ذلك، لهذا الصراع أهميّة كبيرة بالنسبة لإيران نظراً لخطوط النفط الإيرانية الممتدّة إلى أوروبا مرورا بأرمينيا. وبالتالي، لا تريد الجمهوريّة استمرار الصراع بين البلدين لعدم تخريب هذه المشاريع من جهة، وكي لا تذهب الدولتان إلى اتفاقية "بول غوبل" الأميركية التي تقضي بتبادل للأراضي بين الدولتين، تخسر خلالها إيران حدودها مع أرمينيا، وبالتالي يفشل مشروع أنابيب النفط من الجنوب الإيران إلى أوروبا مروراً بأرمينيا.

إستراتيجياً، تتجه إيران صوب أرمينيا لتوطد معها العلاقات بهدف تعزيز نفوذها الإقليمي، ومنع واشنطن وتل أبيب من إحاطة طهران بشبكة قوية من العلاقات مع دول منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وعلى رأسها أذربيجان، وهو ما دفع الجمهورية الاسلامية لاتخاذ خطوات إستراتيجية من شأنها إعادة تقييم علاقاتها مع الكثير من الدول بهدف الوقوف على قدم المساواة مع أميركا و"إسرائيل"، واستعدادا لأيّ طارئ إذا ما اندلعت الحرب في تلك المنطقة(2).

في المحصلة، وعلى عكس الأبعاد الطائفيّة التي تُعطى للموقف الإيراني من أزمة أرمينيا وأذربيجان (كون الأخيرة ذات أغلبية شيعية)، فإن إيران لها مصالح وفرص مهمة في القوقاز وذلك لقربها من هذه الجمهوريات ووجود روابط وامتدادات قوميّة ولغويّة تشترك بها معها، وتنفذ سياسات عسكرية واقتصادية تجاه هذه الجمهوريات للحفاظ على مصالحها وحماية أمنها القومي.

1- الحاج، سعيد. ناغورنو كاراباخ: ساحة صراع جديدة بين روسيا وتركيا. مركز الجزيرة للدراسات، 28/09/2020.

2- محمد، حمد. موقف إيران من الصراع الأذربيجاني الارمني حول إقليم "ناغورني قره باغ". مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية، 13/4/2016.