لم يتّضح حتى الآن المسار الذي ستسلكه المفاوضات الحكوميّة بعيد كسر رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​ "عزوفه" المستمرّ منذ أشهر، وإعلانه أنّه "مرشّح حكماً" ل​رئاسة الحكومة​، الأمر الذي خلط أوراق ​الاستشارات النيابية​ المقرَّرة يوم الخميس المقبل.

وبانتظار "بلورة" نتائج الاتصالات السياسية التي بدأ الحريري بإجرائها مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، انهمك كثيرون في "تحليل" ما خلف سطور الرسائل التي وجّهها في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، والتي ارتقت لمستوى "تصفية الحسابات".

ولعلّ اللافت في هذه الإطلالة، بحسب ما تقاطعت القراءات، تمثّل في "التكتيك" المستجدّ الذي اعتمده الحريري، والقائم على معادلة "الكسر والجبر" في آنٍ واحد، حيث رفع السقف مع الجميع، حافظاً في الوقت نفسه "شعرة معاوية" معهم، بدليل بقاء كلّ "الجبهات" هادئة نسبيّاً، رغم كلّ شيء.

وحدها "​القوات اللبنانية​" شكّلت "الاستثناء" على القاعدة، إذ لم تنتظر الاتصالات "الموعودة"، فسارعت دائرتها الإعلاميّة لإصدار بيانٍ مفصَّل رداً على حديث الحريري، "فنّدت" فيه مضمونه، تماماً كما كانت تفعل سابقاً مع خطابات الأمين العام لـ "​حزب الله​" السيد حسن نصر الله!

مشكلة "عميقة"!

لم يعد خافياً على أحد أنّ المشكلة بين الحريري و"القوات"، وتحديداً بينه وبين رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​، ليست عابرة ولا آنيّة، ولا حتى هامشيّة أو تفصيليّة، بل هي مشكلة في "العمق" قبل أيّ شيءٍ آخر، وقد دلّت عليها الاستحقاقات المتتالية منذ "فضّ" التحالف الذي كان قائماً بينهما تحت لواء "ثورة الأرز".

تتفاوت "القراءات" حول "جذور" هذه المشكلة بين من يردّها إلى مرحلة استقالة الحريري الشهيرة من ​المملكة العربية السعودية​، والتي "بالغ" جعجع في البناء عليها، فيما كان خصوم الحريري يرسمون علامات الاستفهام حولها، وصولاً إلى حدّ التشكيك بجدّيتها. وثمّة من يذهب أبعد من ذلك لاتهام "الحكيم" بلعب دورٍ في ما يصفه بـ "الانقلاب" الذي كان مُحضَّراً ضدّ الحريري، والذي "أحبطته" القوى السياسية، ولا سيما منها المحسوبة على "العهد".

ومع أنّ الجميع يتّفقون بشكلٍ أو بآخر على أنّ هذه "الصفحة" مثّلت "جرحاً جوهرياً" على خطّ العلاقة بين الجانبيْن، فإنّ هناك من يرى أنّها "طُويت" مع عودة "الشيخ سعد" من السعودية، وتراجعه عن استقالته، ليشخّص "المشكلة" في جوهر "أداء" فريق "القوات" بعد ذلك، وخصوصاً لجهة سلوكه درب "الشعبويّة" على حساب الحريري، وفق ما يقول بعض "المستقبليّين".

ويذكّر هؤلاء بسلسلة من المحطّات اللافتة التي تصرّف فيها جعجع كمُعارِضٍ للحريري في سبيل "استقطاب" الرأي العام، مع أنّه كان يشاركه الطبق الحكوميّ الواحد، سواء يوم اختار التصويت ضدّ الموازنة مثلاً، أو يوم ارتأى تحقيق "السبق" على الحريري بإعلان استقالة وزرائه من الحكومة على وقع "انتفاضة" السابع عشر من تشرين الأول، "متعمّداً" عدم انتظار موقف رئيس الحكومة السابق.

أما عدم تسمية جعجع للحريري في الاستشارات النيابية في مرحلة ما بعد "الثورة"، وحرمانه من "الميثاقية" التي كان ينشدها رئيس الحكومة الأسبق مسيحياً بعد "طلاقه" مع "العهد"، فيصبح مجرّد "تفصيلٍ" في المشهد، باعتباره "نتيجة التراكمات" السابقة، علماً أنّ هناك من يجتهد ليعتبر "​التسوية الرئاسية​" التي أبرمها الحريري مع "العهد"، "أساس البلاء" الذي وقع على خطّ العلاقة من الناحية العملية، ولو كانت بدفعٍ من جعجع الذي كان السبّاق عبر "تفاهم معراب".

"رهان" في غير مكانه؟!

اليوم، يعود الحريري ليخوض السباق نحو السراي الحكوميّ مجدّداً، متسلّحاً بـ "طاقية الإنقاذ" التي يصوَّر لكثيرين أن لا أحد غيره يملكها، فيما يخشى آخرون من المحيطين بالحريري بالدرجة الأولى، تكرار "سيناريو" حرمانه من أصوات الكتل المسيحية الوازنة، الذي دفعه قبل أقلّ من عام إلى سحب اسمه من التداول، وعبّد الطريق أمام مرشح "اللون الواحد"، إن جاز التعبير، رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب.

وعلى رغم بدء ظهور "اجتهادات" تتحدّث عن إمكان القفز فوق هذا التفصيل، باعتبار أنّ الحريري سيحصل على أصوات العديد من النواب المسيحيين، ولو خسر "ثقة" الكتلتين الأساسيّتين، فإنّ أنظار الكثيرين بدأت تتّجه نحو "القوات"، وما إذا كان بالإمكان تليين موقفها من الآن وحتى الخميس، أو ما بعد الخميس في حال تمّ إرجاء الاستشارات، في سيناريو يبدو الأكثر قابليّة للتطبيق برأي الكثيرين، بالنظر إلى الوقائع والمعطيات الموضوعية.

بالنسبة إلى "القواتيين"، فإنّ الموقف كما يؤكد المطّلعون عليه، "مبدئيّ" بالدرجة الأولى، وهو ليس "شخصياً" ضدّ الحريري، الذي لا تزال "القوات" مقتنعة بأنّ "مساحات التلاقي المشتركة" معه أكثر بكثير من "مساحات الافتراق"، ولو أنّ هناك "ضخّاً إعلامياً مقصوداً وغير بريء" يصوّر المسألة بخلاف ذلك، وهو "ضخّ" لا يتردّد "القواتيون" بتحميل مسؤوليته المباشرة لفريق "المستقبل" أصلاً قبل غيره، بل للحريري نفسه الذي بات "يتجاهل" لبّ المشكلة، ليصوّب على "القوات" وغيرها.

من هنا، قد لا يكون "الرهان" على "تعديلٍ" في موقف "القوات" من الآن وحتى الخميس أو ما بعد الخميس في مكانه، ولو أنّ "القواتيين" يدعون لانتظار "نضوج" الاتصالات السياسية قبل "حسم" موقفهم، وهناك بينهم من "يراهن" على عدم صمود ترشيح الحريري أصلاً حتى الخميس، علماً أنّ هناك من يرى الدعم "القواتي" للحريري "من سابع المستحيلات"، حتى لو "صفت القلوب"، لأنّ مثل هذه الخطوة ستشكّل "خنجراً" في الاستراتيجية "القواتية" المُعتمَدة منذ "الثورة"، والقائمة على "الابتعاد" عن الطبقة السياسية بكامل عتادها وعديدها.

حسابات مختلفة!

يقول العارفون إنّ "القوات" ليست في وارد دعم الحريري، وإنّه من الأفضل أن يصرف الأخير "جهده" على إقناع "الوطني الحر" بالتصويت له في الاستشارات، رغم كلّ الخلافات، من أن يحاول إعادة عقارب ساعة علاقته مع جعجع إلى "أيام العزّ".

صحيح أنّ هناك من يربط الموقف "النهائي" لـ"القوات" بأداء الحريري السياسيّ، وما إذا كان سيتواصل بالمباشر مع جعجع هذه المرّة، ويذهب للقائه في معراب، أم سيكتفي بإرسال موفَدٍ في أحسن الأحوال، ما قد يوتّر الأجواء بينهما أكثر ممّا هي متوتّرة.

لكنّ الصحيح أيضاً أنّ حسابات "القوات" أبعد من لقاءٍ من هنا أو اتصالٍ من هناك، بل أبعد من الإقليم نفسه، ولو أنّ هناك من بات "يصنّفها" على أنّها من تمثّل "أجندة" محور السعودية مثلاً، منذ تراجع "أسهم" الحريري على هذا الخط، وهو ما لم يظهر "نقيضه" بعد.

باختصار، تفرض حسابات "القوات" الداخلية قبل الخارجية عليها، "تَمَوْضُعاً" معاكساً للحريري، ولكلّ نظرائه في السلطة، أو "الطامعين" بمقعدٍ فيها، لأنّ "استراتيجيّتها" هي ببساطة عكس ذلك، وأيّ تعديلٍ على خطها قبل الانتخابات المبكرة، التي يكاد صوت "القوات" يُبَحّ من كثرة المطالبة بها، ليس وارداً، بل من شأنه الإطاحة بكلّ المكتسبات التي تحقّقت...