يُقال أن "المصلحة الشخصية هي دائماً الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ"، وفي لبنان يبدو أن السياسيين يمارسون هذه المقولة في ​تفاصيل​ يومياتهم، فتنعدم المعايير وتختلف الخلاصات لنفس الإشكاليات مع تبدّل الظروف والمصلحة، وحتى ​الدستور​ يُفسّر حسب الأهواء الذاتيّة، ما يجعل ​السياسة​ في لبنان "فنّ الخداع".

منذ أشهر رفض رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ ترؤّس الحكومة يوم كان الجميع يطلب منه تحمّل المسؤولية، وكانت حجّته يومها أنّه يرفض التكليف دون غطاء ​مسيحي​ يؤمّنه "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​"، ولكنه اليوم يقوم بالضبط بما كان يرفضه سابقاً، فها هو ترشّح ل​رئاسة الحكومة​، ولا يبالي بموقفي تكتل "لبنان القوي" ولا تكتل "​الجمهورية القوية​"، وحتى أنه لا يبالي بما يُسمّى الميثاقيّة المسيحيّة، رغم أنه بالسابق هاجم ترؤّس حسّان دياب للحكومة، وهو الذي لم ينل أصوات نواب سنّة يمنحونه "الشرعيّة الميثاقيّة".

بالمقابل، يتذرّع التيار الوطني الحر بالميثاقيّة المسيحيّة لتسمية رئيس الحكومة المكلّف لتأجيل استشارات نيابيّة ملزمة ومعارضة وصول الحريري الى رئاسة الحكومة، وسيتذرّعون بها بمرحلة التأليف، ولكنّهم بالسابق لم يبالوا بتسمية حسّان دياب لرئاسة الحكومة رغم معارضة الممثّل الأكبر للطائفة السنّية، أيّ تيار "المستقبل"، ورغم عدم رضى ​دار الفتوى​ حتّى، ومن ثم لم يبالوا بتمثيل الوزراء السنّة، فشاركوا مع رئيس الحكومة آنذاك بتسميتهم.

يقولون أن الحريري يومها رفض ترؤس الحكومة، وهذا صحيح، ولكن بنفس المنطق، فالتيار "الوطني الحر" أعلن مراراً عدم رغبته بالمشاركة بالحكومة، وعدم رغبته بتسمية الحريري، كذلك فعلت "القوات اللبنانيّة" التي تصر على عدم تسمية الحريري، فلماذا لم تُترك الأمور لتأخذ مجراها السياسي الطبيعي؟ ولماذا فجأة اختلفت المعايير؟ ولماذا فجأة هبطت الشروط والشروط المضادّة بحيث أصبح الخلاف الشخصي أقوى من المصلحة العامة؟.

الثنائي الشيعي​، يريد ​وزارة المال​ لأنّها يعتبرها من حقّه، ولكن مع عدم اعتماد معايير موحّدة، يصبح الدفاع عن هذا الحق صعباً، خاصة عندما يكون الثنائي قد تنازل عن وزارة المال في أكثر من مناسبة، ولو أنّ للتنازل أسبابه السياسية بحسب هذا الفريق، إلا أن إقناع الناس يصبح صعباً عندما يشاهدون نتائج مختلفة لإشكاليّات مشابهة.

تختلف المعايير لدى الجميع، فمثلا تريد "القوات اللبنانية" أن تُقنع اللبنانيين أنّها لا تريد تسمية سعد الحريري لرئاسة الحكومة لأنّها تخشى على الرجل من الفشل، ولا تريد له أن يكون "وكيل تفليسة"، فـ"القوات" "الثائرة" حريصة على سعد الحريري، وتنادي ب​انتخابات​ نيابيّة مبكرة، لتخرج من الجلسات وتعطّل النصاب وتمنع إقرار القوانين.

ليست المعايير وحدها من يختلف باختلاف الظروف، فحتى الدستور يُفسّر بحسب المصلحة، اذ هناك أكثر من خبير دستوري غبّ الطلب، ولكل فريق سياسي "خبيره الدستوري"، الذي يملك في جعبته دراسات وتفسيرات وتحليلات لكل مادّة دستوريّة، بحيث يكون جاهزاً لرفع الدراسة المناسبة في الوقت المناسب.

هذه بعض الأمثلة التي حصلت في الأشهر الماضية، ولكن يبقى "أغرب" ما حصل، هو التعاطي مع "المبادرة الفرنسيّة"، ف​تيار المستقبل​ فسّرها "تطويباً" للحريري على رأس حكومة موظّفين، ورؤساء الحكومات السابقين فسّروها على أنّها حكومة موظّف يعمل لديهم بوزراء يختارونهم هم، والتيار الوطني الحر فسّرها بأنها حكومة يرأسها أيّ شخص ما عدا الحريري، بوزراء ملائكة يشارك باختيارهم رئيس الجمهوريّة، والفريق الشيعي فسّرها بأنها اعتراف بقوّته ووجوده وحقّه بالمشاركة السّياسية، و"القوات اللبنانيّة" فسّرتها بأنها "حكومة الثورة" التي ركبت موجتها لدرجة جعلتها تصدّق بأنها على رأس "الثوار". وكل ذلك أسهم بضياع المبادرة.

طالما أن المعايير غير موحّدة، والدستور غير متّفق على كل تفاصيله ستبقى الخلافات أكبر من أن تُحلّ في هذا البلد الذي يعاني منذ نشأته بغياب "المصلحة العامّة" وغلبة "المصلحة الخاصة".