أصبح من الواضح أنّ المشكلة ليست في تسمية الرئيس ​سعد الحريري​ لتشكيل ​الحكومة​ ​الجديدة​، فهناك كما يبدو موافقة على ​تكليف​ه، ولا يوجد مرشح آخر غيره مطروحاً في الاستشارات التي ستجري يوم غد الخميس، كما هو مقرّر حتى اللحظة… إلا إذا حدث تطوّر غير ملحوظ بعد.

إنما المشكلة كانت ولا تزال متمثلة في مرحلة ما بعد التكليف، أيّ في طبيعة وكيفية ​تأليف الحكومة​ ومن يسمّي وزراءها، ومضمون وماهية السياسات الإصلاحية الاقتصادية والمالية التي ستعتمدها.. لذلك نحن أمام ثلاثة عقد جوهرية مترابطة، بحاجة إلى حلّ في مرحلة ما بعد التكليف، اذا تمّ، حتى تولد ​الحكومة الجديدة​، وإلا سيبقى الرئيس الحريري رئيساً مكلفاً غير قادر على التأليف، أو يعتذر كما اعتذر السفير مصطفى أديب…

وهذه العقد هي:

أولاً، العقدة الأولى، طبيعة الحكومة، هل ستكون مقتصرة فقط على وزراء اختصاصيين.. أم ستضمّ اختصاصيين وسياسيين، ايّ حكومة تكنو سياسية..

إذا كانت الحكومة من الاختصاصيين، كيف سيتمّ تذليل اعتراض ​التيار الوطني الحر​ المبدئي على رئاسة الرئيس الحريري حكومة من الاختصاصيين وهو لا تنطبق عليه صفة اختصاصي…؟ وبالتالي هل يجري حلّ هذه العقدة بتطعيم الحكومة بوزراء دولة من السياسيين لتصبح تكنو سياسية.. إذا حصل ذلك، ننتهي من العقدة الأولى.

ثانياً، العقدة الثانية وهي من يسمّي الوزراء؟

في هذه النقطة، هناك حديث عن أنّ الرئيس الحريري وافق بأن تسمي كتل ​التنمية والتحرير​، و​الوفاء للمقاومة​، و​اللقاء الديمقراطي​، وزراءها.. إذا كان ذلك صحيحاً، رغم انه لم يتمّ الإفصاح عنه رسمياً، لكن ذلك لا يحلّ هذه العقدة نهائياً، إذا لم يوافق الحريري على قيام أكبر تكتل نيابي، المتمثل في تكتل ​لبنان​ القوي بتسمية وزرائه أسوة ببقية الكتل، بما يحقق التمثيل النيابي و​الطائف​ي وفق دستور الطائف.. إذا أصرّ الحريري على رفض ذلك، فإنه سيواجه عقبتين في طريقه…

العقبة​ الأولى، رفض ​رئيس الجمهورية​ الموافقة على تأليف حكومة لا تتمثل فيها ​الطوائف​ بعدالة وعلى قاعدة احترام حقّ ​الكتل النيابية​ التي تمثلها في تسمية ممثليها في الحكومة.. والعقبة الثانية، تضامن ​حزب الله​ مع موقف التيار الوطني في حقه بالتمثيل وفق ما ينص عليه ​الدستور​ وتشكيل الحكومات ما بعد الطائف… فحزب الله لا يمكن أن يقبل بإقصاء أيّ من حلفائه، خصوصاً أنّ هدف الرئيس الحريري من محاولة إقصاء التيار الوطني مرتبط بالخطة الأميركية للنيل من التيار، ومحاولة دقّ أسفين بينه وبين حزب الله، وبالتالي ​تفجير​ تفاهم ​مار مخايل​ الذي أرسى التحالف بين الطرفين.. وهو أمر أعلن حزب الله كما التيار التمسك به، رغم التباينات التي تحصل بين الفينة والأخرى حول بعض المسائل..

إذا تراجع الحريري عن المراهنة على تأليف حكومة يقصى عنها التيار الوطني فإنّ هذه العقبة الثانية تكون قد حلت..

ثالثاً، العقدة الثالثة، لا تقلّ أهمية عن العقدتين السالفتين، بل أنها مرتبطة بهما.. وهي برنامج الحكومة وطبيعة السياسات الإصلاحية التي ستعتمدها لمعالجة ​الأزمة​ المالية والنقدية والاقتصادية. هل سيتَمسك الرئيس الحريري بموقفه الداعي إلى تمكينه من مواصلة السياسات السابقة التي أنتجت الأزمة وتسبّبت بالانهيار الحاصل في قيمة ​الليرة​، ومستوى معيشة اللبنانيين.. أم سيوافق على التراجع عن هذه السياسات لمصلحة سياسات إصلاحية تعيد النظر بالسياسات السابقة.. لا سيما لناحية رفض الإجراءات التي يطالب بها ​صندوق النقد​ الدولي و​الدول المانحة​ لقاء منح لبنان قروضا مالية..

وهل يوافق الرئيس الحريري بأن يكون برنامج الحكومة الإصلاحي بالتوافق مع الأطراف السياسية التي ستمنح حكومته الثقة، خاصة أنّ ​تفاصيل​ البرنامج الإصلاحي هي الأساس وليس الخطوط ​العريضة​ للبرنامج والمتفق عليها أصلاً وفق ما ورد في المبادرة الفرنسية.. وعند الحديث عن تفاصيل البرنامج ستكون هناك نقاط خلاف بشأن الموقف من شروط ​صندوق النقد الدولي​ التي تتضمّن فرض ضرائب غير مباشرة تصيب الطبقات الشعبية والتي باتت تشمل أغلبية اللبنانيين، وتخصيص القطاعات المتبقية لدى ​الدولة​ وبيع ممتلكاتها، في مقابل منح لبنان قرضاً مالياً بين 9 و12 مليار دولار…

الرئيس الحريري يؤيد الموافقة على هذه الشروط، لأنها تنسجم مع رؤيته الاقتصادية والمالية وتطلعه لتخصيص قطاعات رابحة مثل الخليوي والمرافئ.. لكن هذه الشروط التي يطالب بها صندوق النقد يرفضها حزب الله وآخرون، يرفضون أيضاً اعطاء الحريري شيكاً على بياض ل​تقرير​ مصير البلد بما يناسب مصالحه ومصالح الدول الغربية التي تريد استدراج لبنان إلى فخ الاستدانة وفق شروط صندوق النقد الدولي لجعل لبنان مرتهناً بالكامل للسياسات الغربية المنسجمة مع السياسات الإسرائيلية، التي تستهدف تطويق ​المقاومة​ ونزع سلاحها، وفرض اتفاق لتحديد الحدود البحرية بين لبنان و​فلسطين المحتلة​ يمكن كيان العدو الصهيوني من الحصول على مساحة هامة من ​المياه​ الإقليمية اللبنانية الخالصة الغنية ب​الغاز الطبيعي​. ويراهن الأميركي والصهيوني ل​تحقيق​ هذا الهدف، على استغلال الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، وحاجته الماسّة للبدء بعمليات ​التنقيب​ واستخراج الغاز، الى جانب الرهان على إغراق لبنان بالمزيد من الديون وشروطها المذلة…

لذلك فإنّ المعركة كانت ولا تزال مرتبطة بالسياسات التي ستنتهجها الحكومة. وهو ما دفع الأميركي إلى فرض الحصار المالي على لبنان وتفجير الأزمة الاقتصادية والمالية في الشارع في محاولة لإنجاز ربيع أميركي في لبنان يطيح بالمعادلة السياسية ويمكن ​واشنطن​ من الهيمنة على القرار السياسي اللبناني بواسطة حكومة تابعة لها تنفذ ​السياسة​ الأميركية التي تصبّ في خدمة السياسة والأطماع الصهيونية…

اذا كانت واشنطن قد وصلت إلى قناعة بأن الطريق لتحقيق أهدافها يصطدم بعقبات لا يمكن تذليها حاليا، وانه من الأفضل العودة إلى القبول بحكومة يشارك فيها حزب الله وحلفاؤه، مع محاولة تحسين بعض الشروط لمصلحة الفريق الموالي لها، ممكن عندها تذليل العقد المذكورة آنفاً ونكون أمام إمكانية ولادة حكومة جديدة تعود بنا إلى مرحلة ​المساكنة​ بين الفريق الوطني والفريق الأميركي على غرار تشكيل حكومة الكاظمي في ​العراق​.. لأنه لا يمكن لأيّ متابع ومراقب سياسي للمشهد اللبناني منذ ​استقالة​ الرئيس الحريري اثر اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول، إلا أنّ يربط بين هذه الاستقالة والتوجه والقرار الأميركي في حينه لتفجير الأزمة في سياق محاولة تنفيذ انقلاب سياسي في البلاد.. وعليه لا يمكن أن يقدم الرئيس الحريري على الترشح ل​تشكيل الحكومة​ وأيّ خطوات أخرى مرتبطة بمشاركة حزب الله وحلفائه في الحكومة من دون موافقة أميركية…

فهل تراجع الأميركي عن الفيتو الذي وضعه أمام مشاركة حزب الله وحلفائه، وبالتالي نكون أمام تكليف الحريري يوم الخميس وحلّ عقد التأليف، وولادة حكومة قريباً، أم أنّ الموقف الأميركي لا يزال على حاله بالتمسك بحكومة اختصاصيين مستقلين، وبالتالي تبقى البلاد في مرحلة تصريف أعمال، ورئيس مكلف لا يؤلف، ريثما تحصل ​الانتخابات الأميركية​ وتظهر نتائجها وتتضح طبيعة السياسة الأميركية في المرحلة المقبلة في لبنان وعموم المنطقة…!؟