الإنسانُ حبيبُ الله، وقد خلق الدُّنيا مِن أجلِه، وأعطاهُ أن يكونَ على صُورتِهِ، ودَعاهُ ليكونَ على مِثالِه، مليئًا بالمحبَّة، وسَيّدًا حرًّا مستقلًا لا تسود عليه الخَطيئةُ، ولا تكبِّلُهُ ولا تأسُرُه. وبعد أن تجسَّدَ اللهُ طافَ يبحثُ عنهُ ليُعتِقَه مِن سُلطةِ إبليسَ عليه.

كان يسوعُ يحزنُ على ما وصل إليهِ الإنسانُ في سُقوطِه، كان ينظُرُ إليه ويقولُ له: لقد أعطيتُكَ السُّلطانَ لا لتكونَ عبدًا، لقد نفخْتُ فيكَ نسمةَ الحياةِ لا لتكونَ مائِتًا مَرمِيًّا في القُبور، لقد جبلتُكَ ابنًا لي، ابنًا للنُّورِ لا لتَسكُنَ الظُّلمة.

لماذا سمحتَ للشّيطانِ أن يسودَ عَليك؟ أنظرْ إلى نفسِك. ها أنت عُريانٌ مِن النِّعمةِ،تركُضُ وتَصيحُ وتُجرِّحُ نفسَك بالحِجارة، مَعزُولٌ، مُهجَّرٌ مِن بيتِ أبيك. أنا حزينٌ عليكَ يا بُنَيَّ، وقد أتيتُ لأُنقذَكَ وأُعيدَكَ إليّ.

هذا إنجيلُ هذا الأحدِ، لَكِنَّهُ في الواقِعِ إنجيلُ كُلِّ يَوم، لا بل كلِّ لحظةٍ في حَياتِنا.

الإنسانُ خارجَ النِّعمةِ تَائهٌ في ظُلمةِ الجَحيم، تُجَرِّحُهُ الخطايا، وتُكبِّلُهُ بِسَلاسِلِها، وتُقَيِّدُ حُريَّتَه، وتجعلُهُ مَسلوبًا مِنَ العطايا الإلهيَّةِ، وتجعلُهُ دائمَ الاضطرابِ، فاقِدَ الطُّمأنِينَةِ لا يَعرفُ السَّلام.

ولكنَّ كُلَّ هذا ينتهي بِلَمسةٍ مِنَ الخَالِقِ المُتجسِّدِ، فيعودُ الإنسانُ إنسانًا لِيَسيرَ بَعدَها إلى التألُّهِ إن جَاهَدَ الجِهادَ الحَسن.

يُعطينا لوقا الإنجيليُّ وَصفًا دَقيقًا للمَرحلةِ قَبلَ اللّقاءِ بِيسوعَ وبعدَه. ففي الأُولى نرى رجُلًا أهلَكَتْهُ الشَّياطينُ، وباتَ مُشرَّدًا "لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ، بَلْ فِي الْقُبُورِ"(لوقا ٢٧:٨). وفي الثَّانيةِ نُشاهِدُ الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِسًا وَعَاقِلًا، جَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوع.

هذا عُبورٌ قِيامِيٌّ، هو انتقالٌ لِنَلبَسَ يَسوعَ ونمتلِئَ حِكمةً إلهيَّةً، ونُصبحَ عُقَلاء. عَكسُ ذلك جُنونٌ وشَرٌّ، وهذا ما نشاهِدُه في العَالمِ اليومَ في مَيادِينَ شَتَّى، "لأَنَّهُ يُؤْتِي الإِنْسَانَ الصَّالِحَ قُدَّامَهُ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً وَفَرَحًا"(الجامعة ٢٦:٢).

قبل اللقاءِ بِالرَّبِّ نَكونُ أمواتًا، نَسيرُ في الظُّلمةِ حَاسِبينَ أنفُسَنا أحياءَ، ولكِنَّنا في الوَاقِعِ نَدُبُّ على الأَرضِ كَوُحُوشٍ مُفتَرِسةٍ نَفتَرِسُ بعضُنَا بَعضًا.

نقرأُ في رِوايَةِ "حَفَّارِ القُبور" لِجُبرانَ خَليل جُبران، عن جُثَثِ الأمواتِ المُكَدَّسَةِ حَولَ المَنازِلِ والمَحاكِمِ والمَعابد. وكأنَّ بِذلكَ أَصبحَتِ السُّلطةُ على هذهِ الأَرضِ نصيبَ مَنْ تَحالَفَ مَعَ الشِّرير. وفي الرِّوايةِ نفسِها يَشرحُ حَفَّارُ القُبورِ كَيفَ يُمضي أيَّامَه ولَيالِيه، فيقُول: «في الصَّباحِ أُجدِّفُ على الشَّمسِ، وعِندَ الظَّهيرةِ أَلعَنُ البَشرَ، وفي المَساءِ أَسخَرُ بِالطَّبيعَة، وفي الليلِ أَركَعُ أمامَ نَفسي وأَعبُدُها».

لِنسألْ أنفُسَنا بِصراحَةٍ وشَفافيةٍ، مَاذا نفعلُ كُلَّ يَوم؟ وما هي اهتماماتُنا؟ ما الذي نَبتَغِيهِ؟ عندها سَنعرفُ مَن يَسكُنُ فينا. وسنُدرِكُ أتباعَ مَن نحنُ، ومَن هو إلهُنا ومعبُودُنا.

​​​​​​​

حَفّارُ القُبورِ اعترفَ مُتباهِيًا بأنَّهُ يبدأُ نهارَهُ بِالتَّجديفِ على الشَّمس. لماذا يا تُرى؟ الجَوابُ بَسيطٌ، لأنَّ الشَّمسَ حياةٌ ونورٌ ودِفءٌ، بينما فِي القَبرِ مَوتٌ وظُلمةٌ وبُرودَة. الشَّمسُ عَدُوّتُه، وهولا يستطيعُ إلغاءها فيُجدِّفُ عليها. مَاذا عنَّا نحن؟ هل نبدأ نهارَنا بِتَمجيدِ اللهِ؟ هل حقًا نُدرِكُ أنَّ شمسَنا هُوَ المَسيح، وحياتَنا هي يَسوعُ، ونُورَنا هُوَ الرَّبُّ، ودِفئَنا هو الرُّوحُ القُدُس؟ أم نُجدِّفُ على خالقِنا بِأعمالِنا، ونجعلُ الآخرينَ يُجدِّفُونَ على اللهِ بِسَبَبِنَا؟.

حَفَّارُ القُبورِ قال إنَّهُ يَلعَنُ البَشر، فهل نحن أيضًا نُماثِلُه؟ هل نَلعنُ كلَّ مَن نَحسُدُهُ ونَغارُ مِنه؟ وكلَّ مَن هُوَ أفضلُ مِنَّا؟ وكُلَّ مَن لا يَتناسَبُ معَ أهدافِنا ومقاصِدِنا؟ هل نلعنُهُم لِنكونَ نحنُ أسيادَهم، ونحتقِرُهُم ونَستغِلُّهُم لِمآرِبِنا، ومِن ثَمَّ نتخلَّى عَنهُم عندما لا يَعُودون يَأتُونَنا بِفائدة؟ أم نحاولُ أن نَكونَ دُعاةَ سَلامٍ ومَحَبَّةٍ ومُساعَدةٍ وتَعاضُدَ وخَلاصٍ للآخَرينَ كما فعلَ يَسوعُ مَعَ المَرأةِ السَّامِريَّةِ في الظَّهيرةِ وبَشَّرَها؟.

حَفّارُ القُبورِ يَتباهى بِأنَّهُ في المَساءِ يَسخَرُ بِالطَّبيعَة. هذا مَرَدُّهُ أنَّ الطَّبيعةَ فيها جَمالٌ، وهُوَ يعرِفُ نَفسَهُ بِأنّهُ قبيح ويَعيش في القباحة. فمَن أَحبَّ أعمالَ الظُّلمةِ مَقتَ الجَمال.

أخبرَنَا اللهُ في أُولى صفحَاتِ الكتابِ المُقدَّسِ بِأنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ كان حسنًا، أي جميلًا. والآباءُ القدِّيسونَ علَّمونا مَحبَّةَ الجَمالِ "الفيلوكاليّة"، أي محبّةَ جمالِ الله. إذا ("φιλία philia "love" and κάλλοςkallos "beauty). فهل نقتفي آثارَهم؟.

ويُنهي حَفَّارُ القُبورِ نَهارَه بِالسُّجود أمامَ نفسِهِ وعِبادتِه لِذاتِه. هل هذا فِعلًا غريبٌ عَنَّا؟ هل نحنُ آلهةُ أنفُسِنا ومِحورُ ذَواتِنا؟.

هل يُشبِهُنا حَفَّارُ القُبور؟ هل قتَلْنَا أنفُسَنا ونبتَغي قتلَ الآخرينَ؟ هَل تَركنا بيتَنا الإلهيَّ الدَّافئَ وسِرنَا خَلفَ أهوائنا فسكنَّا القُبورَ المُكلَّسةَ المَليئةَ بِرَجاسةِ خَطايانا المُميتَة؟.

أينَ نَحنُ اليومَ؟ ألَم نَسأمْ هذهِ القُبورَ القَاتِلة؟ ألا نَشتَاقُ إلى الحَياةِ؟ نَحنُ أبناءُ إلهِ الحَياةِ لا المَوت.

ولكن يبقى أن نخرجَ مِن قبرِ ذَواتِنا، ونَكسِرَ سَلاسِلَ عُبودِيَّتِنا بِبُنُوَّتِنا لِلمَسيحِ صَارخِينَ إليه: تعالَ واشفِنا واسكُنْ فينا، لكي نرتاحَ فيكَ، ويرتاحَ العالَمُ مِن حولِنَا مَعنا.