ربح رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ "جولة" ​الاستشارات النيابية​، وعاد ليقف على أبواب السراي الحكوميّ، "رغماً عن" الخصوم، القدامى والجُدُد، وفي مقدّمهم "​التيار الوطني الحر​" الذي لم يكن خافياً على أحد "امتعاضه" من مسار الأمور.

ربح الحريري "جولة"، فانتشرت الاحتفالات في بيئته، وجابت المسيرات السيّارة المناطق المحسوبة عليه، ورُفِعت صورُه وأعلام تيّاره، في محاكاة لـ "انتصار سياسيّ" بدا توظيفه "مُبالَغاً به"، أو بالحدّ الأدنى، "سابقاً لأوانه"، أقلّه بناءً على تجربة ​مصطفى أديب​ الحديثة.

لكنّ ما ربحه الحريري يبقى "نقطة في بحر" ما ينتظره، باعتبار أنّ الاستشارات ليست "سوى البداية"، كما قال بنفسه، ومرحلة التأليف التي يخشى كثيرون أن تجسّد "جهنّم" الذي حذّر منه ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ قبل أيام، تبقى التحدّي والمفصل الحقيقي، وإن أصرّ الحريري على القول إنّه يشكّل "الفرصة الأخيرة".

ثمّة من يقول إنّ الحريري ربح جولة، لكنّ خصومه لم يخسروا بعد، وهم لن "ينحنوا" له أو لغيره، وإنما يُعِدّون العِدّة لـ "الآتي الأعظم"، والذي سيكون على الحريري نفسه تحديد "نوعه"، لأنّ أحداً لن يقدّم له "شيكاً على بياض"، مهما كانت الدوافع، وأياً كانت الظروف!.

انتصار بطعم الهزيمة!

لا يمكن اعتبار ما حقّقه الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة "انتصاراً" بكلّ ما للكلمة من معنى، للكثير من الاعتبارات والأسباب، أولها ما وصفه "خصمه" رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​ بـ "هزالة الأرقام" التي حقّقها، في إشارة إلى ما اعتبره "ضعفاً ونقصاً تمثيلياً".

يتجلّى هذا الأمر بوضوح من خلال الرقم الذي حقّقه الحريري، والذي لم يتجاوز عتبة الـ65 صوتاً، ولو أنّ التوقعات كانت ترجّح رقماً أدنى، الأمر الذي شكّل في مكانٍ ما، تراجعاً "قياسياً" للحريري نفسه، المصنَّف "الأقوى في طائفته"، الذي نزل مستوى الدعم له من 111 صوتاً في العام 2018، إلى 65 صوتاً فقط اليوم. ولعلّ ما يعزّز "الخيبة"، إن جاز التعبير، أنّ "حصاد" الحريري جاء أدنى من ذلك الذي حقّقه رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ حسّان دياب، والذي لم يبقَ أحدٌ من فريق "المستقبل" وداعميه، إلا ولامه على القبول بتكليفٍ "هزيلٍ" من هذا النوع.

وإذا كان غياب الدعم عن الحريري من أكبر كتلتين مسيحيّتين من عوامل "الضعف" التي شابت "انتصار" الحريري، هو الذي رفض تكليفه بالطريقة نفسها قبل أقلّ من عام، فإنّ ثمّة من يرى أنّ "البروباغندا" التي خاضها "الخصوم"، وباسيل على رأسهم، لم تكن موفَّقة، بل أعطت فريق "المستقبل" الحُجّة، باعتبار أنّ هؤلاء لم يشعروا بهذه "الهزالة" ولم يكترثوا لها، يوم أتوا بحسّان دياب "منزوع الميثاقية السنية"، من دون أن يعتبروا ذلك نقطة سلبية.

وفي حين كان واضحاً أنّ الحريري قرّر "القفز" فوق كلّ هذه "الاعتبارات"، انطلاقاً من "حساسيّة" المرحلة التيلا تحتمل "ترف" مثل هذه "المهاترات"، وفق ما يقول المقرّبون منه، فإنّه لا يمكن "نكران" أنّ همّه الأساسيّ كان تسجيل "نقطة" على خصومه، وهو ما حصل له، بعد فشل كلّ "التكتيكات" التي اعتمدوها في سبيل "إبعاده" عن ​رئاسة الحكومة​، واضطرارهم في نهاية المطاف، إلى الخضوع للأمر الواقع، بلا حول ولا قوة.

"التيار" بالمرصاد!

بهذا المعنى، يمكن الحديث عن "انتصار" حقّقه الحريري، الذي نجح في الوصول إلى السراي، متجاوزاً "فيتو" رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، اللذين لم ينجحا في "إحراجه لإخراجه"، سواء من خلال تأجيل الاستشارات التي كانت ستفضي لفوزه المحتَّم، أو من خلال الرسالة "النوعيّة" لرئيس الجمهورية، الذي كاد يقول فيها للنواب صراحةً: "لا تسمّوا الحريري، وإلا فذنبكم على جنبكم".

لكنّ هذا "الانتصار" ليس النهاية، كما يؤكد العارفون، لأنّ "التيار الوطني الحر" الذي قبل بالأمر الواقع، مُكرهاً أو بطلاً، لن "ينحني" للحريري واعتباراته وشروطه بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهو يدرك أنّ نقاط القوة التي يملكها، في مرحلة التأليف، من شأنها أن "تطيح" بكلّ مكتسبات "التكليف" عن بكرة أبيها، هذا إن وُجِدت أصلاً، لأنّها برأي بعض المحسوبين على "الوطني الحر"، تبقى "وهمية"، ومن باب "رفع المعنويات" ليس إلا.

من هنا، يبدو واضحاً أنّ "التيار" سيكون بالمرصاد للحريري في مرحلة التأليف، فإمّا يقرّر رئيس الحكومة المكلَّف فتح "صفحة جديدة"، فعلاً لا قولاً، ويبادر إلى "التفاهم" مع باسيل، بعيداً عن الاستشارات الرسميّة، وإما يحكم على مهمّته بالفشل سلفاً، علماً أنّ أوساط "التيار" تقول صراحةً، إنّ ما أعطي للسفير مصطفى أديب، من تسهيلٍ ومرونةٍ وليونة، لن يُعطى أبداً للحريري، أولاً لكون الأخير "سياسياً بامتياز"، وثانياً لكونه قدّم "ضمانات" لبعض الأفرقاء، مستثنياً عن قصد، وسابق تصوّر وتصميم، باسيل دون غيره.

ولعلّ "الوطني الحر" يستقوي، في كلّ ما سبق، بـ"حصانةٍ دستوريّة" يمتلكها، وتتمثل بتوقيع رئيس الجمهورية، الذي من دونه لا يمكن لأيّ تشكيلةٍ حكوميّةٍ يبلورها الحريري، على حساب باسيل، أن تبصر النور، وهو بهذا المعنى "جاهزٌ للمنازلة" مع الحريري، علماً أنّ "رهان" الأخير على متغيّرات دوليّة، أو ضغوطٍ فرنسية وأميركيّة ستفرض على عون السير بحكومةٍ لا يرضى عنها، ليس في محلّه كما يقول العارفون بـ "التيار"، الذين يعتبرون الفرصة "مثاليّة" لعون لتكريس معادلته الشهيرة: "يستطيع ​العالم​ سحقي، لكنّه لن يأخذ توقيعي"!.

"كلمة السرّ"!

من حقّ الحريري أن "يحتفل" بالتكليف، بعدما شعر أنّه واجه "حصاراً" من "العهد"، بدأ بتأجيل الاستشارات تفادياً لتكليفه، ولم ينتهِ بالرسالة غير المسبوقة لرئيس الجمهورية، ما حوّل فوزه "المتواضع"، بل "الخجول"، "انتصاراً كاملاً" وفقاً للموازين السياسيّة.

من حقّ الحريري أن "يحتفل"، لكن إذا كان فعلاً يريد أن "ينكبّ" على ​تأليف الحكومة​ سريعاً، وإذا كان فعلاً "عازماً" على وقف مسلسل "الانهيار"، فقد يكون مطلوباً منه تعديلٌ جوهريّ في "التكتيك"، بعيداً عن الخلافات الشخصية، وما تستولده من "نكايات".

طريق الحريري لن تكون معبَّدة بالورود، بل إنّ أكثر المتفائلين يتوقّع له مهمّةً معقَّدة ومستعصية، ومليئة ب​الألغام​ والأشواك، لا "كلمة سرّ" في الخلاص معها، سوى "التعاون والتفاهم" مع رئيس الجمهورية، صاحب صلاحية "التوقيع الثاني"، ومن خلفه باسيل بطبيعة الحال.

يبقى تفصيلٌ بسيطٌ، فكلّ هذه "النكايات" تحصل في ذكرى "​الثورة​"، "الثورة" التي أطاحت بالحريري، فإذا به يعود على "أطلالها"، وسط "لهفة" الأحزاب كلّها إلى "​السلطة​"، فكرةٌ تستحقّ الكثير من التأمّل في "انهيارٍ" أخلاقيّ وسياسيّ قد وقع، قبل ذلك الاقتصاديّ المُنتظَر!.