قال رئيس وزراء العدو بنيامين ​نتنياهو​ تعليقاً على الاتفاق مع ​السودان​: "سماء السودان مفتوحة الآن أمام "​إسرائيل​" مما يسمح بتسيير رحلات مباشرة وأقصر إلى ​أفريقيا​ وأمريكا اللاتينية " وكان قد قال منذ بضعة أيام تعليقاً على الاتفاقات المتسارعة مع دول الخليج: " لقد أصبحنا مفترقاً جوياً وبحرياً هاماً في المنطقة “. وعلى ماذا حصل السودان مقابل ذلك؟ حصل على "وعد" من ​ترامب​ برفعه من قائمة "الدول الراعية للإرهاب" بعد أن دفع السودان 335 مليون ​دولار​ في حساب ل​ضحايا​ هجمات على سفارتي أميركا في ​كينيا​ و​تنزانيا​ وعائلاتهم. ما يفكّر به العدو الإسرائيلي ومعه السيد الأمريكي طبعاً هو سماء وأرض وثروات السودان المفتوحة الخيرة ، ومياهه وأمواله وكيفية الانقضاض على كلّ هذه الثروات ونهبها مقابل "وعود" بسحب اسمه من الدول الراعية للإرهاب، ونعرف الوعود الأمريكية والإسرائيلية وما أكثرها والتي أعطيت للعرب عموماً ولمصر و​الأردن​ و​الفلسطينيين​ قبل التطبيع. ​الولايات المتحدة​ ستفتح للسودان الأبواب وتجلب له الخيرات، بينما الخيرات كلّ الخيرات التي لم يحسن السودان استثمارها في أرضه ​الطيبة​ الغنية والتي تحتوي على كنوز تُثير أطماع الخصوم والأعداء الذين يغطّون خططهم بالانقضاض عليها باتفاقات تطبيع أو صداقة أو مودة كلامية بينما هم لا يرون شعباً على تلك الأرض ولا يحترمون أياً من العرب في أي من أقطارهم إلا كاحترامهم للفلسطينيين ، ولكن يدفعهم الطمع بخيرات هذه البلاد فوضعوا الخطط وفكروا وروّجوا وتمكنوا من إقناع ضعاف العقول أولاً أن الطريق إلى ​واشنطن​ يمرّ عبر ​تل أبيب​ وأن توقيع الاتفاقات مع الكيان الغاصب سيحدث قفزة للدول الموقعة في التقدم والتقنيات و​الزراعة​ و​الصناعة​ و​العلوم​. والسبب الأساس لكلّ هذا الخلل الفظيع والوهم القاتل، رغم وجود البراهين التي تثبت عكس ذلك ألا وهي الدول التي طبعت منذ عقود، السبب الأساس هو أن العدو يكرّس وقتاً هاماً للتخطيط قبل التنفيذ بينما لم تدخل مرحلة التخطيط بعد في قاموس العرب الحقيقي فمعظم سياساتهم هي عبارة عن ردود أفعال لما يخططه لهم الخصوم والأعداء ومشروعهم قائم على محاولة صدّ الآخر والتصدّي له في أحسن الأحوال، بدلاً من أن يكون مشروعهم مستقلاً مع أهداف واضحة وجدول زمني محددّ. في الوقت الذي تتسارع فيه ربات التطبيع من بلد إلى آخر يوقف الكيان الغاصب منح تأشيرات لموظفي ​الأمم المتحدة​ ل​حقوق الإنسان​ كي لا يسجلوا جرائمه بحقّ الفلسطينيين، وكي لا تظهر صور ماهر الأخرس والذي تعتبر معاناته وصمة عار في جبين الاحتلال الغاشم.

وأنا اقرأ ​الأخبار​ المتسارعة عن التطبيع مع العدو أتذكر صيغ العمل العربي المشترك والتي كانت تشمل مؤسسات ومنظمات منبثقة عن ​الجامعة العربية​ ولجان مشتركة ثنائية بين بلدين تعقد اجتماعات دورية وتناقش الخطط والتبادل والتعاون ولكن كل ذلك لم يفض إلى شيء على الإطلاق لأن مرحلة التخطيط لم تكن حقيقية وجادة ولأن الجدول الزمني كان مفتوحاً سنة أو عقداً أو دهراً ولأن عنصري التقييم والمحاسبة أيضاً كانا غائبين عن أي برنامج عمل تنفيذي، وهكذا فإن انهيار المواقف الذي نشهده اليوم تجاه العدو ليس وليد ​الساعة​ وإنما هو وليد تراكمات على مدى عقود، لم تمتلك أي مجموعة أو حزب أو نقابة أو مؤسسة أو منظمة الجرأة على إطلاق تساؤلات جدية وعميقة حول مآل هذا العمل ومقصده المستقبلي والسبب الحقيقي لعدم بلوغ الأهداف المتوخاة منه إن كان هناك أهداف مرسومة سلفاً. بعد كلّ التشهير و​العنصرية​ التي مارسها أعداؤنا ضدنا على مدى العقود الماضية سوف نبدأ نكتشف اليوم وعلى لسانهم هم قيمة ما نمتلكه من جغرافيا وتاريخ وثروات وحضارة وعراقة ولكن فقط بعد أن ينسبوها لأنفسهم ويصبحوا هم أسياد الموقف؛ فكما بدأ نتنياهو بسماء السودان وكأنها أصبحت ملكاً لرحلاته الجوية توفّر له الوصول إلى أفريقيا و​أميركا اللاتينية​ ستتحدث دوائرهم عن الزراعة في السودان وخصوبة الأرض والمنتجات الهائلة التي سينتجونها هناك ولكن بعد أن يكونوا هم أصبحوا أبطال الإنتاج وليس ​السودانيين​ أنفسهم. لقد ساهم الكثيرون من العرب وفي مختلف أقطارهم بحملات جلد الذات والاستهانة ب​العروبة​ والقومية العربية والمقدرات الهائلة التي تمتلكها هذه الأمة من محيطها إلى خليجها غير مدركين أنهم يرددون فقط ما يريد لهم الأعداء أن يرددوه ويؤمنوا به من احتقار للذات وبحث عن حلول على أيدي من يستهدف وجودهم ويطمع بالاستيلاء على سمائهم وأرضهم وأموالهم وتاريخهم.

والسؤال اليوم هو: هل فات الأوان لفعل أي شيء من شأنه أن ينقذ هذه الأمة ويخلّصها من أنياب الوحش الذي ينقضّ عليها بعد أن بثّ السموم في عقول وضمائر وإرادة بعض من أبنائها؟ من المؤكد أنه لم يفت الأوان خاصة إذا ما تذكرنا أن النسبة الأكبر من العمل الذي يقوم به العدو يندرج في إطار الدعاية والإعلام؛ إذ علينا الانتباه إلى أنه يصوّر الواقع وكأن شعوب هذه البلدان التي يوقع اتفاقيات تطبيع معها قد خرجت عن بكرة أبيها وهلّلت ورحبت بالخطوات غير المسبوقة معه بينما يجب أن نعرف أفضل من ذلك بكثير؛ فشعب السودان المثقف والعروبي وصاحب التاريخ العريق والمتجذر بهويته لا يمكن أن يكون كما يصوره لنا العدو. وهل يجوز أن نستقي أفكارنا وآراءنا في شعب شقيق من عدو له مصلحة كبيرة في الترويج لآرائه ومخططاته؟ حتى وإن وقّع أحد من أصحاب المواقع الرسمية اتفاقاً مع الكيان الغاصب فهذا لا يعني أبداً أن الشعب السوداني برمته موافق ولا يعني أن هذه الحال سوف تستمر إلى الأبد ولا يعني أبداً أن إرادة الشعب الحرّة غير قادرة على الانتفاض على اتفاقات التطبيع واجتراح سبل جديدة تعيد للشعب كلمته في ​تقرير​ مستقبله في الوقت الذي تهلل إدارة ترامب لعدد ​الدول العربية​ التي سوف تركب قطار التطبيع. يجب أن يركز المؤمنون بقضيتهم على مسار آخر: مسار توحيد إرادة الرافضين لكل هذا الهوان حتى في الدول المطبعة نفسها؛ إذ لا يمكن لما يجري اليوم أن يكون نهاية الصراع أبداً بل هو جولة في معركة طويلة من الممنوع القنوط من الفوز فيها أو هجرها نتيجة الدعاية الكونية التي مرد عدونا على تغذية العقول بها بحيث يوهن الإرادات حتى قبل أن تستجمع قواها للرد أو لخطّ رؤية ومشروع يفشل أحلامه وأطماعه. هل يمكن لمجريات الأحداث اليوم أن تكون ​الصاعقة​ التي توقظ العرب للتخلّص من أوهام أعمالهم الفائتة والتفكير الحديث بأساليب عمل مستجدة تعيد لهم ما يستحقون من مكانة وتعيد استثمار ما يمتلكون من عناصر قوة حتى وإن استغرق الأمر سنوات؟ فالصراع مفتوح ولا وقت محدد لانتهائه إلا حين يقرر طرف ما الانسحاب أو يحقق النصر. إن ما يجري اليوم على الساحة العربية يؤكد أمرين لا ثالث لهما : الأول هو أن الهجمة الشرسة على العرب و​الإرهاب​ المفتعل المرسل إليهم ناجم عن طمع في جغرافيتهم وتاريخهم وأرضهم وموقعهم وثرواتهم وحضارتهم، والثاني هو أن أساليب العمل العربية منذ ​الاستقلال​ وحتى اليوم برهنت على فشلها ، ولذلك فإن الاستنتاج يجب أن يكون ضرورة تطوير أساليب ​المقاومة​ لتشمل التفكير والتخطيط و​البناء​ والاستفادة من أحدث ما أنتجه الفكر الإنساني بما فيه التقييم والمحاسبة متسلحين بثقة بالنفس والأرض والتاريخ وتصميم على هزيمة الأعداء و​تحقيق​ النصر ولو بعد حين.