إِقترن البحث عن ترشيد استخدام ​المياه​، بالتّطوُّر التكّنولوجيّ... في وقتٍ لم يعُد في مقدور إِدارات الدُّوَل، أَن تبقى على الهيكليّة الموجودة. حتَّى أَنّ الكثير مِنها سعى أَخيرًا إِلى بناء سُدودٍ، تحسُّبًا للازدياد الحتميّ للشّحائح!. وعلى سبيل المِثال لا الحصر، وفي آخر حبّات العُنقود في هذا المجال، يأتي بناء "سدّ النّهضة" في ​إثيوبيا​، ما أَثار حفيظة مصر، فيما تدخّلت ​واشنطن​ على خطّ المواقف، إِلى جانب ​القاهرة​، غامزةً مِن قناة حقّ مصر في تدمير السدّ الإثيوبيّ... وفي هذا الإِطار يبدو أَيضًا أَنّ القارّة الآسيويّة، ستشهد بدورها صراعًا عارمًا على المياه، أسوة بما يُجرى في القارّة السّمراء!.

تدخُّل ترامب

وأعلن الرّئيس الأَميركيّ ​دونالد ترامب​ السّبت الماضي، أَنّ مصر "قد تُفجّر سدّ النّهضة الإِثيوبيّ"، مُشيرًا إِلى أَنّ أَديس أَبابا خرقت الاتّفاق. وقد جاءت تصريحات ترامب عقب مُكالمةٍ هاتفيّةٍ جمعته بعبد الله حمدوك، رئيس الحُكومة السُّودانيّة، وتركّز الحديث خلالها على سدّ النّهضة. واستدرك ترامب: "الوضع حقيقةً خطِر، والقاهرة قد تُفجّر ذلك السّدّ". وأَضاف: "توسّطتُ للوصول إِلى اتّفاقٍ لحلّ المُشكلة، لكنّ إِثيوبيا خرقته، ما أَجبرنا على قطع التّمويل عنها". وحضّ ترامب حمدوك على إِقناع إِثيوبيا بالـ"مُوافقة على الاتفاق لحلّ نزاع المياه"، وأَضاف: "أقول لمصر الشّيء نفسه".

الردّ المصريّ الأوّل

الردّ المصريّ الأوّل جاء على لسان وزير الرّيّ الأَسبق، محمّد نصر الدّين علام، الّذي أَعلن أنّ تصريحات ترامب في شأن ​تفجير​ مصر سدّ النّهضة "تُعدّ ضوءًا أَخضر لضربه". وكتب علام عبر صفحته على "فيسبوك": "إِنّ ترامب يوضح موقف ​القيادة​ المصريّة من سدّ النّهضة، وعدم قبولها المطالب الإِثيوبيّة، واستعدادها للتّدخُّل العسكريّ للحفاظ على الأَمن المائيّ". وأضاف: "أَعتبرُ أَنّ ذلك ضوءٌ أَخضر من ترامب لمصر لضرب سدّ النّهضة".

ردٌّ إِثيوبيٌّ

في المُقابل، استدعى وزير الخارجيّة الإِثيوبيّة السّفير الأَميركيّ، "للحُصول على توضيحٍ في شأن تصريحات ترامب". وأَفاد الوزير المذكور جيدو أَندارجاشيو بأَنّ "التّحريض على الحرب بين إِثيوبيا ومصر مِن رئيسٍ أَميركيٍّ، لا يعكس الشّراكة طويلة الأَمد والتّحالف الإِستراتيجيّ بين إِثيوبيا والولايات المُتّحدة، ولا هو مقبولٌ في القانون الدّوليّ الّذي يحكُم العلاقات بين الدُّول". وشدّد الوزير الإثيوبيّ على أَنّ بلاده "لن تتوقّف، بل ستُواصل بناء مشاريعها الكبيرة"... وأَوضحت الخارجيّة الإثيوبيّة في بيانٍ، أَنّ سدّ النّهضة "مشروعٌ عملاقٌ سيُحوّل الشّعب من حالة ​الفقر​ إِلى حالة الغنى. وأَنّ العمل عليه لن يتوقّف".

وكان رئيس الوزراء الإِثيوبيّ آبي أَحمد، أَعلن أَنّ "سدّ النّهضة هو سدّ إِثيوبيا، والإِثيوبيّون سيُكملون هذا العمل لا محالة، ولا قُوّة يُمكنها أَن تمنعنا من ​تحقيق​ أَهدافنا الّتي خطّطنا لها، ولم يستعمرنا أَحدٌ من قبل، ولن يحكُمنا أَحدٌ في المُستقبل".

وبذلك إِنّما نكون أَمام ربطٍ بين المشاريع الوطنيّة وسيادة الدّولة، في ما يُظهر وعي المسؤولين الأَفارقة لخُطورة أَزمة المياه الآتية لا محالة، وهُم قد خصّوا هذه المسألة بأَولويّة اهتماماتهم، فأَتى ملفُّ المياه على رأس أَجندتهم السّياسيّة!.

موقفٌ أَوروبيٌّ

وخلافًا لكلّ ما قيل أَميركيًّا، فقد أَكّد المُفوّض الأَعلى للشُّؤون الخارجيّة والأَمن في الاتّحاد الأُوروبيّ، ​جوزيب بوريل​ في بيانٍ، أَنّ أَكثر مِن 250 أَلف شخص يُقيمون في حوض النّيل الأَزرق، قد يستفيدون من اتّفاقٍ مُحتملٍ يعتمد على توافقٍ في شأن ملء سدّ النّهضة. وأَفاد بأَن "بات في إِمكان مصر والسّودان وإِثيوبيا بلوغ اتّفاقٍ في شأن ملء السّدّ، والآن هو وقت للتّصرُّف وليس لزيادة التّوتُّرات". وأَعرب المُفوّض عن الدّعم الأُوروبيّ الكامل لجُهود جُمهوريّة جنوب أَفريقيا الّتي تترأس الآن الاتّحاد الأَفريقيّ لدفع الأَطراف إِلى حلٍّ تفاوضيٍّ، مُضيفًا أَنّ "الاتّحاد الأُوروبيّ يتطلّع إِلى استئناف مُحادثات سدّ النّهضة في أَسرع وقتٍ وإِتمامها في نجاحٍ".

التّجربة اللُّبنانيّة والمُناكفات

غير أَنّ للوضع في لُبنان خصوصيّته، لناحية التّعاطي مع الملفّ المائيّ، إِذ تنسحب المُناكفات والكيديّة السّياسيّة، على هذا الملفّ أَيضًا، وقد عرضنا في مقالةٍ سابقةٍ لهذه المسأَلة مِن بوّابة سدّ بسري. وفي مُقابل الاستماتة الإِثيوبيّة لإِتمام سدّ النّهضة، بعزيمةٍ وطنيّةٍ صرفٍ... ثمّة استفحالٌ لُبنانيٌّ أَفضى إِلى وقف العمل بسدّ بسري... وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أَفضت "الورشة الوطنيّة" الّتي نظّمتها "لجنة الطّاقة والمياه" في المجلس النّيابيّ في شُباط 2009، بمُشاركةٍ ​لبنان​يّةٍ ودوليّةٍ واسعةٍ إِلى توصياتٍ مُهمّةٍ رُفعَت إِلى الحُكومة، ومنها إِعداد الميزان المائيّ الحديث، لمعرفة كميّة المياه المُتساقطة من مطرٍ وثلوجٍ، وجريان الأَنهر، وتدفّق الينابيع، والتّبخُّر، والتّسرُّب إِلى الطّبقات الجوفيّة... على أَساس مُعطياتٍ كاملةٍ وجديدةٍ، ناتجةٍ من قياس هذه الكميّات، وبخاصّةٍ في مجال مُتابعة حركة المياه الجوفيّة، وتغيُّر مُستواها مع الوقت، وللتّمكُّن مِن مُتابعة أَيّ تعدٍّ على هذه المياه الجوفيّة مِن العدوّ الإِسرائيليّ... غير أنّ الكيديّة السّياسيّة، كما و​الفساد​ المُستشري، قد أَوقفا كُلّ هذه الخُطوات المُهمّة والضّروريّة...

وعبثًا انبرى المُهندس اللُّبنانيّ ابراهيم عبد العال يُعدُّ الدّراسات قبل أَكثر من نصف قرنٍ (في مُنتصف القرن العشرين)، مِن دون جدوى... حتّى أَنّه دفع حياته ثمنًا لإِنجازاته، وبخاصّةٍ لجهة استغلال نهر الليطانيّ، وتحديدًا مع دولة ​الكويت​، وصولًا إِلى مُباشرة المرحلة الأُولى لريّ جنوب النّهر، وكذلك من أَجل حفظ حُقوق لُبنان في استثمار مياه نهر الوزّاني، على رُغم مطامع إِسرائيل في مياه لبنان، والّتي تعود إِلى إِنشاء الكيان الاسرائيلي.

وفي إِطار المطامع الإقليميّة بالمياه، لا بُدّ من الإِشارة أَيضًا إِلى المُؤتمر الّذي عُقد في 2010 في شأن المياه، بِمُشاركةٍ برلمانيّةٍ مِن الوطن العربيّ ودُوَل الجوار (​تركيا​ و​إيران​) كما وشارك برلمانيُّون من خمس عشرة دولة، وكان من أَبرز توجيهاته التّضامُن الكامل مع مصر، في وجه أَيّ مطامع في مياه النّيل.

إنّ القارّة الآسيويّة تبقى أشدّ خطرًا في ملفّ المياه مِن القارّة السّمراء، لارتفاع منسوب الأطماع مِن ناحية، ولسريان شريعة الغاب المائيّة مِن ناحيةٍ أُخرى، وللحديث صلة...