في 22 تشرين الأوّل الماضي، وفي ختام الإستشارات النيابيّة المُلزمة، كلّف رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ رئيس "تيّار المُستقبل" النائب ​سعد الحريري​ تشكيل الحُكومة الجديدة. وحتى تاريخه، لا تزال مُشاورات التأليف تدور في الحلقة المُفرغة، في الوقت الذي يغرق فيه اللبنانيّون أكثر فأكثر في مشاكلهم المعيشيّة والحياتيّة، وفي الوقت الذي يستمرّ إستنزاف آخر ما تبقّى من إحتياطات ماليّة، سواء على المُستوى العام، أي الإحتياط الإلزامي لدى المصرف المركزي، أو على المُستوى الخاص، أي آخر مُدخّرات المُواطنين اللبنانيّين! فما الذي يحصل؟.

بكل بساطة، الحُكومة عالقة، والمحطّات التي قيل إنّها تُعرقل التشكيل تمضي الواحدة بعد الأخرى من دون إحداث أيّ خرق، بل العكس صحيح، حيث أنّ الأمور تزداد تعقيدًا. ومرّت محطّة الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، وجرى إنتخاب مُرشّح الحزب الديمقراطي جو بايدن رئيسًا (بغضّ النظر عن مُحاولات الرئيس الأميركي المُنتهية ولايته ​دونالد ترامب​ عرقلة هذا الواقع)(1)، من دون حُصول أيّ تغيير يُذكر في المواقف الداخليّة. كما زار لبنان الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون الذي أجرى سلسلة إتصالات مُباشرة، وأرسل أيضًا أكثر من موفد من قبله، كان آخرهم ​باتريك دوريل​، من دون أن تؤمّن كل الجُهود الفرنسيّة الحثيثة المَبذولة سوى تعهّدات شكليّة بالتسهيل، سُرعان ما تمّ التنصّل منها على أرض الواقع، وسوى إتصالات شكليّة كان آخرها الإتصال المُباشر بين رئيسي "التيّار الوطني الحُر" النائب ​جبران باسيل​، ورئيس "تيّار المُستقبل" النائب سعد الحريري،سُرعان ما تبيّن أنّ العقبات أبعد وأعمق من تواصل مُباشر لا يُعالج جوهر المُشكلة. وتمّ عقد سلسلة لقاءات مُباشرة بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلّف-كما ينصّ الدُستور، لتشكيل الحُكومة، بالتزامن مع إبعاد وسائل الإعلام، في محاولة لمنع التشويش على أيّ تقدّم قد يحصل، لكنّ الأمور بقيت في خانة السلبيّة. والعقد القائمة تُختصر سريعًا بالشكل التالي:

"​الثنائي الشيعي​" يُصرّ على الحُضور الوازن والفاعل في الحُكومة، بالشكل وبالمضمون، والمسألة بالتالي أبعد من مُجرّد التمسّك ب​وزارة المال​ وببعض الوزارات الأساسيّة، ومُرتبطة بعدم إستعداد "حزب الله" للخروج من السُلطة، في ظلّ الهجمة الدَوليّة الكبيرة التي يتعرّض لها من جانب ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة ومن يدور في فلكها. وعلى خطّ مُواز، إنّ فريق رئيس الجمُهوريّة و"التيّار الوطني الحُرّ" من خلفه، يرفضان التنازل عن حصّتهما الأساسيّة على مُستوى الحُكم أيضًا، مُساواة بالآخرين من حيث الشكل، ورفضًا للتحوّل إلى مُجرّد مُتفرّجين عاجزين عن أيّ إنجاز ضُمن السُلطة في المَضمون، خاصة وأنّ العهد عهدهم، والحُكم مَحسوب عليهم وكثيرون يُحمّلونهم وزر أخطاء مُختلف القوى، وحتى أخطاء ثلاثة عُقود من الحُكومات المُتعاقبة. والمسألة بالتالي غير مُرتبطة بنيل هذه الوزارة أو تلك، بل برفض إقصاء الذات بشكل طوعي.

في المُقابل، يُدرك رئيس الحُكومة المُكلّف بأنّتلبيته مطالب "الثنائي الشيعي"، وكذلك مطالب فريق رئيس الجمهوريّة، بشكل كامل، يعني عمليًا عدم تلبيّة مطلب بعض الجهات الخارجيّة التي تتحكّم بقرار المُساعدات والقروض الماليّة للبنان، لجهة عدم تمثيل "حزب الله" لا مُباشرة ولا غير مُباشرة في السُلطة، وعدم منح "الثنائي الشيعي" وزارات مهمة، وعدم منح القوى التي تدور على المُستوى الإستراتيجي العام بفلك محور "المُقاومة والمُمانعة"، أغلبيّة عدديّة تامة في السُلطة التنفيذيّة. كما أنّ إستجابة الحريري للمطالب المرفوعة، يعني حصر وُجوده في السُلطة بمنصب رئيس الحُكومة مع بعض الوزراء من الطائفة السنّية، في مقابل منح فريق رئيس الجمهوريّة الثلث زائد واحد، بشكل يسمح لهذا الأخير بتعطيل أيّ قرار وحتى بتطيير الحكومة في حال رغب بذلك، علمًا أنّه ليس بسرّ أنّ أيّ أغلبيّة عدديّة داخل الحكومة قادرة على إتخاذ قرارات لا يؤيّدها الحريري، ومنها قد يطال ملف التحقيق الجنائي في مصرف لبنان، ومصير حاكم المصرف ​رياض سلامة​. والأهمّ ممّا سبق، إنّ إستجابة الحريري للمطالب المَرفوعة يعني عمليًا تشكيل حُكومة إختصاصيّين في الشكل، وحُكومة بخلفيّة سياسيّة واضحة، مع خلل واحد على مُستوى النُفوذ السياسي داخلها، في ظلّ عدم مُشاركة "القوات" و"الكتائب"في الحُكومة، ورفض السماحبتمثيل "الإشتراكي" بأكثر من وزير واحد. أكثر من ذلك، إنّ عدم الإستجابة لمطلب تشكيل حكومة إختصاصيّين مُستقلّة، يُحرج الحريري أمام بيئته وأمام القوى الحليفة السابقة، ويحول دون فتح أيّ باب مُساعدة للبنان من دول الخليج، وقد يحول دون أن يستجيب المُجتمع الدَولي لمطلب لبنان بالحُصول على قروض ومُساعدات ماليّة عاجلة. وعلى الرغم من أنّ الحريري قادر على المُماطلة لفترة طويلة، لأنّ أحدًا لا يُمكنه سحب التكليف منه، لكنّ التجارب السابقة أظهرت أنّ القوى الأخرى المعنيّة لا تتنازل عن مطالبها مهما طال الوقت. وبالتالي، الخيارات أمام الحريري محصورة حتى الساعة بالتنحّي طوعًا عن مُهمّة التشكيل، أو الرُضوخ لمطالب باقي الأفرقاء، ليتشارك عندها معهم بحصّة مُتواضعة ضُمن السُلطة، وبغير شروطه، لكن يُوجد خيار ثالث يتقدّم، ويتمثّل بأن يعرض الحريري تشكيلة حُكوميّة كاملة أمام رئيس الجمهوريّة ليضع الجميع أمام مسؤوليّاتهم، وبحسب المَعلومات فإنّ مُحاولات تفاوض أخيرة ستجري خلال الأسبوع الطالع قبل الوُصول إلى هذا الخيار الصدامي.

وفي إنتظار أن يحسم رئيس الحكومة المُكلّف خياره، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ دول العالم المُتحضّر تجهد منذ بداية العام الحالي، لمُواجهة الإرتدادات السلبيّة لوباء كورونا على إقتصاداتها، وعلى معيشة شُعوبها، وتُحاول إيجاد الوسائل المُناسبة لتجاوز هذه المحنة التي فُرضت على العالم من دون سابق إنذار، بينما في لبنان تتلهّى القوى المَعنيّة بخلافاتها السياسيّة وبصراعاتها الداخليّة والإقليميّة، وتتخذ قرارات الإقفال بشكل عشوائي وغير مَدروس، من دون أن تُعير أيّ إهتمام لكيفيّة صُمود اللبنانيّين، بعد كلّ ما تلقّوه من ضربات قاسية مُتوالية، بحيث صار من المُمكن القول إنّ اللبنانيّين يَغرقونرويدًا رويدًا وهم صاروا على بُعد مسافة قصيرة من الإختناق الكامل!.

(1) إن عبر رفع بعض الدَعاوى القضائيّة بحجّة حُصول تزوير، أو عبر تحريك تظاهرات شعبيّة مُؤيّدة له، قبل الإقرار بفوز بايدن مع القول إنّه جاء عن طريق التزوير.