أَمام التّصميم الإِثيوبيّ على استكمال تجهيز "سدّ النّهضة"، واصطفاف السُّودان ضمنًا إِلى جانب أَديس أَبابا، عجزت مصر عن تبنّي استراتيجيٍّة "مُتّسقةٍ"، فتأَرجحت بين خطابٍ قوميٍّ مُتعصّبٍ عبر وسائل الإِعلام الّتي لا تتوانى عن الاشتعال غضبًا مِن أَجل قضيّة النّيل... وتأكيد الاستعداد علنًا للتّعاون في ما لا يعدو كونه ضربًا مِن الوهم في غالب الأَحيان...

وأَمّا حسابات حقل الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسيّ، فلم تنفع في بيدر "النّهضة"، وقد تجلّى ذلك على هامش اجتماعٍ خلال "قمّة الاتّحاد الأفريقيّ"، في كانون الثّاني 2018، حين شوهد السّيسي مُحاطًا بالرّئيسَين السُّودانيّ والإِثيوبي، زاعمًا أَنّ كُلّ المشاكل ستُحلّ خلال شهر!... وقال السّيسي وقتها: "إِنّ مصالحنا واحدةٌ، ونحن نتحدّث كدولةٍ واحدةٍ وليس كثلاث دُولٍ... لقد انتهت الأَزمة، ولا أَزمة أَصلًا".

كما وتخلى السّيسي في الوقت نفسه، عن طلب وساطة البنك الدّوليّ الّذي كانت اقترحته مصر لتجاوز حالة الجُمود في الملفّ. وقد وُقّع "اتّفاقٌ موقّتٌ" بين الدُّول الثّلاث مُنذُ آذار 2015، وافق عليه السّيسي على رُغم اعتراض الكثير مِن المُقرّبين منه، وبينهم مستشارته لشُؤُون الأَمن القوميّ فايزة أَبو النّجا. بيد أَنّ هذا الاتّفاق بقي حبرًا على ورقٍ، في مُحيطٍ لا اتّجاه حقيقيًّا فيه إِلى التّعاون، ما يُعطي بالتّالي، كُلًّا مِن الأَنظمة الثّلاثة، الأَفضليّة للخطاب الوطنيّ، وتصطدم مصر بتضاؤُل نفوذها، وإِن كانت لا تعترف بذلك، بحسب رأي نبيل عبد الفتّاح، الباحث في "مركز الأَهرام" والخبير في الشّأن السُّودانيّ. وهو القائل: "لقد تقلّصت قُدراتنا الدّيبلوماسيّة في أَفريقيا مُنذُ عُقودٍ، وقد كُنّا نتطلّع إِلى الولايات المُتّحدة وأُوروبا، وأَهملنا التّحوُّلات العميقة لهذه القارّة (أَفريقيا)، لذا يعوزُنا باحثون وديبلوماسيُّون وعسكريُّون يعرفون أَثيوبيا حقًا... لقد عجزنا حتّى عن تفعيل الشّبكات القُبطيّة، للخُروج من هذا المأزق، مع أَنّ كنيستي البلدَيْن مرتبطتان بعُرًى وثيقةٍ".

علاقةٌ مُعقّدةٌ

ولطالما وُصفت العلاقات المصريّة–السُّودانيّة تاريخيًّا بأَنّها "مُعقّدة"، فلقد احتلّت مصر السّودان طيلة نصف القرن العشرين، وحصلت الخُرطوم على استقلالها ضدّ الإِرادة المصريّة. لذا فإِنّ العلاقة بين البلدَيْن الجارَيْن، ظلّت نوعًا ما، علاقة المُحبّ الكارِه، وهي رابطةٌ تُشبه كثيرًا تلك الّتي تُنظّم العلاقات بين ​الجزائر​ و​فرنسا​. وبعد استقلال السُّودان في العام 1956، بقيت العلاقات الإِنسانيّة والاقتصاديّة وثيقةً لوقتٍ طويلٍ... ولكنْ مع مُرور الوقت، ضعُفت العلاقة، وقد أَهملت ​القاهرة​ جارها الجنوبيّ.

وفي 30 حزيران 1989، وصل عُمر البشير والإِسلاميُّون إِلى سُدّة الحُكم في السُّودان عن طريق انقلابٍ عسكريٍّ، وبعد نيّفٍ وثلاثين عامًا على استلام هذه السُّلطة للحكم، تزداد الهوّة المصريّة – السّودانيّة، في حين أُغلقت ​الجامعات​ المصريّة في السُّودان وتعذّى العداء المُشترك بين الجارتَيْن، وبخاصّةٍ في أَوساط الشّباب الّذين لم يعيشوا فترة العلاقات الجيّدة!.

ويُحكى عن إرادةٍ سودانيّةٍ في الانتقام لأَحداث جرت سابقًا، فيما انتشرت ​سياسة​ الإِقصاء في السُّودان. فالسّلفيُّون أَحكموا قبضتهم على المُجتمع، "بدعمٍ سعوديٍّ في غالب الأَحيان" على ما يقول نبيل عبد الفتّاح. وفي المُقابل فثمّة عنصريّةٌ ضدّ السُّودانيّين في مصر الّتي أَهملت شؤون التّطوير في البلد الجار. وأَحد مواضع الخلاف بين البلدَيْن يتعلّق بمُثلّث حلايب جنوب شرقيّ مصر، والّذي تُطالب به السّودان مُنذُ استقلالها. حتّى إِنّ السُّودانيّين يُلقّبون ​الجيش​ المصريّ بالـ"مصرائيليّ"، ويقصدون بهذا التّعبير ما يجمع كلمَتَي: مصر وإِسرائيل، كما ويُشبّهُون وجود مصر في حلايب باحتلال إِسرائيل ل​فلسطين​. والسّودانيُّون الَّذين خسروا جنوب السُّودان، لرُبّما يرفعون راية الحلايب لكي ينسوا الخسارة...

إِنّ "سدّ النّهضة" والصّراع عليه، يكشفان عُمق الخلافات بين الأَفرقاء المعنيّين، واتّساع مروحتها، وتعدُّد ملفّات الخلافيّة... فهل تكون الكلمة الأَخيرة للحرب على ​المياه​؟.

​​