بات واضحاً ان الخلاف الفرنسي-الاميركي بشكل عام، وحول مقاربة الوضع في لبنان بشكل خاص، لم يعد سراً بل خرج الى العلن. لا يحتاج المرء الى الكثير من التعمق والتحليل ليدرك ان الزيارة الاخيرة التي قام بها ​وزير الخارجية​ الاميركي ​مايك بومبيو​ الى ​باريس​، كانت "فاترة" من حيث الشكل و"حامية" في المضمون. فقد اصرّ الوزير الاميركي على التوقف في ​فرنسا​ لبحث عدد من المسائل الاقليمية والدولية، ومنها ما يتعلق طبعاً ب​تركيا​ ولبنان، دون ان ينسى اظهار العتب على مسارعة الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ لتهنئة الرئيس الاميركي المنتخب ​جو بايدن​ في عزّ الازمة بين الاخير والرئيس الحالي ​دونالد ترامب​ حول نتائج ​الانتخابات الرئاسية​ والاعتراف بها. وبغض النظر عن المسائل العديدة التي تم البحث بها، كان لافتاً استقبال وزير الخارجية الفرنسي جان ايفلودريان لنظيره الاميركي في القصر الرئاسي الفرنسي، واعتقد الجميع انه مؤشر لعقد لقاء طويل بين بومبيو وماكرون، لكن الواقع اختلف كلياً اذ انحصر اللقاء بين الوزيرين فقط، فيما كان اللقاء مع ماكرون قصيراً جداً. وتم تفسير هذا الامر على انه ردّ التحية من قبل الرئيس الفرنسي لنظيره الاميركي دونالد ترامب الذي عمل مع ادارته على افشال المبادرة الفرنسيّة في لبنان، والتي اخذها ماكرون على عاتقه واضفى عليها الطابع الشخصي فالتصقت بصورته، قبل ان يُفشلها الاميركيون ويعيّره بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خلافه معه.

وكان من اللافت ايضاً اشارة المتحدث باسم الخارجية الاميركية في بيانه المقتضب، الى انه من بين الامور التي تم التطرق اليها بين الوزيرين، المسألة اللبنانيّة و"التاثير الخبيث ل​حزب الله​"، فيما غاب اللقاء كلياً عن الموقع الرسمي للخارجيّة الفرنسيّة وعن صفحات لودريان على مواقع التواصل الاجتماعي. وابرز الوزير الفرنسي في المقابل، الامل بامكان اعادة جو بايدن الحرارة الى العلاقات مع ​اوروبا​ عبر ابرام اتفاق جديد، وهو امر يدلّ على مدى عمق الخلاف الاميركي-الاوروبي في السنوات الاربع الاخيرة.

وفي عودة الى لبنان، يبدو ان الادارة الفرنسية استوعبت الصفعة الاميركيّة التي تلقتها، وقرّرت الرد في لبنان عبر انتظار الفترة الانتقاليّة وعدم الضغط غير المجدي بعد ان علمت بالطريقة الصعبة ان الاطراف في لبنان لن يقوموا بدورهم كما يجب، ولو ان الامر يتعلّق بانقاذ بلدهم، اذ انهم يهتمون لانقاذ انفسهم اولاً، وقد اصابوا عبر هذا الخيار ماكرون نفسه الذي، ولو لم يعترف بالخسارة، الا انّه فقد جزءاً من صورته ومكانته الخارجية بعد زيارتين متواليتين الى لبنان واطلاقه المبادرة الانقاذيّة التي لا تزال تصارع في الرمال المتحركة اللبنانية.

وعليه، فإنّ انضمام فرنسا الى ركّاب قطار انتظار المرحلة الانتقاليّة الاميركيّة، انما يعني انّ الازمة اللبنانية من المنتظر ان تراوح مكانها في الاسابيع القليلة المقبلة، وان باريس ارتضت ان تمرّ عاصفة ترامب في المنطقة ولبنان بأقل قدر مممكن من الخسائر قبل ان تعمد الى التنسيق مع بايدن وادارته لتعيد ​الحياة​ الى مبادرتها، واقتسام النفوذ مع ​واشنطن​ بنسبة اكبر بالنسبة اليها، بدل ان تقبل بالقليل المطروح عليها حالياً عبر ادارة ترامب. فيهذا الوضع، يجد لبنان نفسه بين سندان فرنسا ومطرقة ​اميركا​، وهو يعوّل على ان تحمل الاسابيع المقبلة بعض الامل في اخراجه من حالته السوداء التي يعيشها حالياً، وتتضح رؤيا النفوذ الدولي في المنطقة ليبنى على الشيء مقتضاه وتعود الامور الى مسارها الطبيعي المعروف، مع تغيير مهمّ في ​الشرق الأوسط​ يتمثّل بالتطبيع العربي مع ​اسرائيل​، ومسألة ترسيم الحدود البحريّة بينها وبين لبنان، ما يعني مزيداً من الاستقرار في المنطقة وابعاد شبح الحروب والمواجهات العسكريّة، دون اسقاطه من المعادلة لانه مكوّن اساسي لبقاء النفوذ الدولي.