بدا وكأن السعي جاد ومن قبل الجميع، دون استثناء، كي يأخذ قرار التعاقد مع شركة عالميّة لاجراء تدقيق جنائي مالي في حسابات مصرف ​لبنان​ ومنه، في حسابات مؤسسات ووزارات. وعلى رغم الوقت الطويل الذي استغرقه الموضوع، وبعد تخطّي عراقيل عديدة لاختيار الشركة المناسبة ووضع خريطة لمهامها، تمّ توقيع الاتفاق مع شركة "الفاريز ومارسال" للقيام بهذه المهمة البالغة الاهمّية بالنسبة الى تعافي الوضع اللبناني، باعتراف اللبنانيين والمسؤولين الدوليين على حدّ سواء. وفيما كانت الامور تسير على الدرب الصحيح، اسودّت غيوم التحقيق وضربت العاصفة بقوّة اساسات الاتفاق، وسارعت الشركة الى "نفض" يدها من الموضوع، لتضع مسار التحقيق بأكمله في المجهول.

ما هو معلوم، أنّ السعي وخصوصاً من قبل ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​، سيتواصل للعودة الى المسار الموضوع، ويحكى عن بحث حثيث يجري مع شركات عالميّة لخلافة "الفاريزومارسال" وكشف المستور في هذا الملف، وبالسرعة اللازمة. غير أنّه، لا يجب على أحد ان ينسى أنّنا في لبنان، وهو البلد الوحيد ربما الذي يملك ادراجاً لا تنضب من النسيان، فتدخل الملفات والاحداث اليها وتغيب ليبتلعها الزمن وتصبح مجرد ذكرى في الذاكرة. في المبدأ والشكل، من المنطقي البحث عن شركة اخرى، ولكن في الحيثيات، فإن اكبرالمتفائلين لن يتوقّع انتهاء التحقيق ووصوله الى غاياته المرجوّة، والسبب بسيط لانه عندها ستتورط اسماء كبيرة ولامعة ومعروفة في قضايا وفضائح عسيرة، من شأنها ادخال البلد في زواريب ضيقة قد تنتهي بمواجهات ليس الخارج في وارد معرفة كيفيّة حلّها، عند حصولها. نعم، انه "البعبع" الدائم الذي يطلّ برأسه كلّما اقتربت الامور من كشف معطيات خطيرة بالنسبة الى البعض ولو من شأنها حلّ الكثير من المعضلات ووضع البلد على السكّة الصحيحة التي ينادي بها الجميع، دون ان يرفقوا القول بالفعل، وينادون بالتالي بما لا يضمرون.

أشارت معلومات كثيرة الى أنّ سبب انسحاب الشركة ليس محلياً فقط، بل دولياً ايضاً، لانّ ​الولايات المتحدة الاميركية​ و​اوروبا​ لم يسمحا بخوض هذه المغامرة حتى النهاية، لانها ستطال اشخاصاً من سياسيين وغير سياسيين تعتمد عليهم هذه الدول كي يديروا سياساتها في لبنان بشكل سرّي وعلني ودائماً، "وفق القوانين"! وافادت المعلومات ايضاً أنّ هذا الامر سرّع في اتخاذ الشركة قرارها فيالانسحاب، وإلاّ لماذا تكتفي بقيمة جزائيّة لا تذكر بالنسبة اليها، فيما يمكنها الحصول على مبلغ اكبر بكثير اذا ما انتظرت فترة ثلاثة اشهر مثلاً، علماً انها خلال هذه الفترة لن تخسر أي مصاريف او جهود بالغة لموظفين، وستكتفي بالحضور المعنوي الى ان تتسلم ما تطلبه. اما القول بأنها يئست من تسلم الاوراق التي تطلبها، فهو كلام حق يراد به باطل، لانّها تعلم تماماً ان ما ينتظرها ينتظر أيّ شركة اخرى ستحلّ محلها، وفي حال كان السيناريو المتوقع هو الذي سيأخذ طريقه، فعندها سيتمّ التوصل الى حلّ يراعي وضع الجميع، وستأخذ الشركة أموالها بأقل قدر ممكن من العمل، ما يعني انها ستكون رابحة في كل الاحوال.

من المؤكّد ان أي نتيجة جذريّة لن تصدر عن أيّ شركة ستتولى التحقيق الجنائي المالي في لبنان، ومن المؤكّد ان اللاعبين المحليين الاساسيين سيبقون في مناصبهم نظراً الى الحاجة الاساسية لهم للاستمرار في تطبيق سياسات اثبتت نجاحها بالنسبة الى الخارج، وفشلها بالنسبة الى الوضع العام في لبنان، والى احوال شريحة من اللبنانيين لا تزال ترفض قبول الامر الواقع الذي يفرض عليها، وتبحث عبثاً عن طوق نجاة ليس في المتناول. هذا هو الواقع المرير، ولا تكمن الحسرة فيعيش هذا الوضع، انما في انسداد الافق بعد ان توقّع الدول الخارجيّة الكبرى على صكّ البراءة الذي سيعطى للمسؤولين والمعنيين في لبنان ليبدأوا مرحلة جديدة بأسلوب قديم عفن.