لم يتأخّر رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ في "تلقّف" الرسالة التي وجّهها ​رئيس الجمهورية​ ميشال عون إلى البرلمان، على خلفية "تطيير" التدقيق الجنائيّ، فحدّد سريعاً موعداً لجلسةٍ لمناقشتها يوم الجمعة، من دون "استنزاف" مهلة الأيام الثلاثة التي يمنحها له ​الدستور​.

أبعد من ذلك، ذهب المحسوبون على بري، كاشفين أنّ الأخير لم ينتظر الرسالة الرئاسيّة أصلاً ليتحرّك، بدليل تقديم كتلته النيابيّة اقتراح قانون يهدف إلى إخضاع الإدارات والمؤسسات العامة للتدقيق الجنائي، بما يتخطّى عقد التدقيق المحصور بحسابات ​مصرف لبنان​.

ومع أنّ عون تلاقى مع هذا الطرح، بتضمين رسالته إشارة لافتة إلى ضرورة "انسحاب التدقيق" في حسابات مصرف لبنان، "على سائر مرافق ​الدولة​ العامة ​تحقيق​اً للإصلاح المطلوب"، فإنّ كثيرين رصدوا "رسائل مشفّرة" بين الجانبيْن، تنمّ عن "حرتقات" وما هو أكثر منها.

فهل تكون رسالة عون "جسر عبور" لتوسيع "الهوّة" الواسعة أصلاً بين عون وبري، والعابرة للملفات من ​الحكومة​ إلى ​قانون الانتخاب​ مروراً بالتدقيق الجنائيّ نفسه، أم يسلك ​النقاش​ الدستوريّ مساره الطبيعي، وتُضبَط الأمور بالتي هي أحسن؟!.

عون "ممتعض"

إن دلّت الرسالة الرئاسيّة على شيء، فعلى أنّ ​الرئيس ميشال عون​ "ممتعض" من المسار الذي سلكه ملف التدقيق الجنائي، على خلفيّة "الانسحاب التكتيكيّ" لشركة "الفاريز & مارسال"، نتيجة "التعقيدات" التي أحاطت بمهمّتها، في ظلّ رفض مصرف لبنان التجاوب مع طلباتها وتقديم كلّ المستندات التي طلبتها، بحججٍ قانونيّة يرى كثيرون أنّها "واهية"، ولو ارتبطت بقانون إلغاء ​السرية المصرفية​.

وعلى رغم أنّ كثيرين يحمّلون فريق رئيس الجمهورية نفسه مسؤوليّةً على صعيد هذه "التعقيدات"، بدليل السجال الافتراضيّ الشهير بين وزيرة العدل في حكومة ​تصريف الأعمال​ ​ماري كلود نجم​ وأمين سر تكتل "​لبنان القوي​" النائب ​إبراهيم كنعان​، ولو تمّ "تصويبه" لاحقاً، فإنّ "العونيّين" لا يتردّدون في توجيه أصابع الاتهام في "تطيير" التدقيق إلى حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​، ومعه رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، الذي لم يصدر عنه للمفارقة أيّ تعليق على ما حصل، ولا حتى على ما نُسب إليه من دعوةٍ لغضّ النظر عنه، ولكن قبلهما رئيس مجلس النواب نفسه، الذي لم "يحصّن" العقد كما يجب.

ويذكّر "العونيّون" بالإشكاليّات "التقنيّة" التي رافقت توقيع العقد، والتي أحاطت بدورٍ لعبه وزير ​المال​ ​غازي وزني​، المحسوب على برّي، أسهم في "المماطلة"، بل في إفراغ العقد من مضمونه، من خلال عدم الأخذ بملاحظات رئيس الجمهورية وهيئة التشريع والاستشارات، وهم يردّون الأمر إلى ​السياسة​ التي اعتمدها بري في حكومة حسّان دياب، حين ارتأى "تمثيل" المغيَّبين عنها، وتحوّل إلى "وكيلٍ" للحريري، و"حامٍ" لرموزه، وعلى رأسهم سلامة، والجميع يذكر "المآثر" التي نجمت عن اقتراح "إقالة" الحاكم.

"مواجهة محتملة"؟

وبُمعزَلٍ عن كلّ هذه "الإشكاليّات"، جاءت الرسالة الرئاسية التي وجّهها عون إلى مجلس النواب، مستندة إلى إصرار عون على المضيّ بـ"معركة التدقيق" حتى النهاية، هو الذي وضعها ضمن سجلّ "إنجازات العهد" التي يرغب البعض في "تبديدها"، وهي تنطلق بالتالي من رغبته باستخدام أيّ صلاحية يتيحها له الدستور لـ"إحياء" هذا التدقيق، والقيام بكلّ ما يلزم من أجل "إنعاشه"، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وإذا كان رئيس مجلس النواب تجاوب سريعاً مع الرسالة الرئاسيّة، من حيث الشكل، بوصفها "حقاً دستورياً" لرئيس الجمهورية، لا غبار حوله أو نقاش في شأنه، فإنّ المعنيّين يشدّدون على أنّ الأساس يبقى في "المضمون"، وما يمكن أن ينتج عن هذه الجلسة، علماً أنّ الخبراء القانونيّين يتحدّثون عن سلسلةٍ من الخيارات المُتاحة، بينها الاستجابة للمطلب الرئاسيّ، وإقرار قانون معجّل مكرّرٍ بخصوصها، كما تأجيل البحث بها، ولكن أيضاً إمكان ردّها، انطلاقاً من ​القاعدة​ الثابتة القائلة بأنّ المجلس "سيّد نفسه".

وفي هذا السياق، ثمّة من يخشى من أن يؤدّي الأمر إلى "مواجهة" جديدة، وغير مستحَبّة، بين رئيس الجمهورية ومجلس النواب، ولا سيّما رئيسه، خصوصاً أنّ كتلاً نيابيّة أساسيّة لم تكن محبّذة من الأصل للذهاب بالتدقيق الجنائيّ حتى النهاية، لأنّه سيشكّل "إدانة" للطبقة السياسية برمّتها في نهاية المطاف، وما اقتراح القانون المقدّم من كتلة بري، والذي يوسّع التدقيق ليشمل جميع مؤسسات وإدارات الدولة، سوى رسالة واضحة الدلالات في هذا الإطار.

وإذا كان ثمّة من قرأ في هذه الرسالة "لطشة" إلى عون نفسه، باعتبار أنّ أصابع اتهام توجَّه إلى التكتّل النيابي المحسوب عليه بالمشاركة في "الهدر"، في حقائب أساسيّة احتكرها طيلة سنواتٍ طويلة، في إشارة ضمنية إلى "​الطاقة​" تحديداً، فإنّ "العونيّين" يعبّرون عن "توجّسهم" من "التسييس" السريع الذي تعرّضت له الرسالة الرئاسيّة، رغم أنّ الرئيس كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، بإصراره على أنّ رسالته "مستقلّة تماماً عن الخلافات والصراعات السياسية"، وأنّ مسألة التدقيق "قضية وطنية بامتياز"، وهنا بيت القصيد.

"كلن يعني كلن"!

ثمّة من يقول إنّ الخلافات بين عون وبري "عابرة" للتدقيق الجنائيّ، وهي تبدأ من الحكومة، التي يحمّل بري عون مسؤولية تأخيرها، على رغم حلّ ما سُمّيت بـ"العقدة الشيعية"، وتصل إلى قانون الانتخاب، الذي يستغرب عون طرح بري له في هذا التوقيت "المريب"، رغم إدراكه أنّه لن يؤدي سوى إلى خلق "مشكلة" جديدة، بزيّ "طائفي" غير محبَّذ.

لكن، أبعد من هذه "الهوة" القابلة للاتّساع مع كلّ يوم، ومن "الكيمياء المفقودة" بين عون وبري منذ بدء "العهد"، هناك من يجزم بأنّ التدقيق الجنائيّ الذي طُرِح تحت "ضغط" المبادرة الفرنسية، لم يكن مطلوباً أن يصل إلى "برّ الأمان"، وأنّ كلّ الأفرقاء يرفضونه بالشكل والمضمون، خشية أن تصلهم استهدافاته، أو بالحدّ الأدنى، يريدونه محصوراً بمؤسّسةٍ معيّنة، بما يخدم معاركهم السياسية الضيّقة.

لعلّ مثل هذه "الخلاصة"، إن صحّت، وهو المرجّح، تؤشر إلى "عمق" ​الأزمة​، التي لا تزال "تعيق" ​تأليف الحكومة​، و"تجمّد" كلّ الاستحقاقات، وهي أنّ لا إرادة فعلية أو رغبة جدّية بتحقيق الإصلاح، ولو جاهر الجميع بخلاف ذلك ليلاً نهاراً، وهذا ما أثبتته المعطيات منذ قرّر السياسيون الإطاحة بالمبادرة الفرنسيّة، وهو ما حصل عملياً، رغم وصفها بـ"الفرصة الأخيرة"!.