مفاجئةً لكثيرين، بدت الانتقادات الصريحة والمباشرة التي وجّهها ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ إلى رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ من قصر بعبدا، حيث دعاه إلى القيام بمسؤوليّاته، والعودة إلى رئيس الجمهورية للبتّ بأمر التشكيلة كاملةً، مشدّداً على أنّ الحكومة لا تؤلَّف "بالتقسيط".

ولأنّ الراعي استخدم تعبير "بدّن يسمحوا لي فيها"، أخذت انتقاداته بُعداً أكبر لتعبّر عن "امتعاضٍ" واضح من أداء الحريري، الذي حمّله بشكلٍ أو بآخر المسؤوليّة عن التأخّر في ​تأليف الحكومة​، في "تقاطعٍ" مع موقف رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ومن خلفه "​التيار الوطني الحر​"، اللذين يرميان كرة "التعطيل" في ملعبه أولاً وأخيراً.

لكنّ هذا "التقاطع" لا يبدو محصوراً بعون و"التيار"، والراعي الذي قد يقول البعض إنّه "تأثّر" بما سمعه من عون، كون تصريحاته جاءت بعد لقاءٍ جمعه به، بل يتوسّع ليشمل معظم القوى المسيحيّة، بما فيها تلك التي انخرطت سابقاً في "تحالفٍ وثيقٍ" مع الحريري، على غرار "​القوات​" و"​الكتائب​"، المغيّبتيْن ذاتيّاً عن الملفّ الحكوميّ...

أين الشراكة؟!

لا يبدو وصف كلام البطريرك الراعي من قصر بعبدا بـ"الصرخة المدويّة" عبثياً، إذ إنّه بدا أكثر من "معبّر" في غمرة "الجمود" الذي أصاب الملفّ الحكوميّ، الذي لم يُسجَّل على خطّه أيّ اتصالٍ جدّي منذ أيام، مع "شبه قطيعة" غير مُعلَنة بين المعنيّين، حتى أنّ هناك من يقول إنّ الحريري وضع ورقة التكليف "في جيبه"، واعتكف بانتظار "الفرج"، كما كان يفعل في أكثر من محطّة تكليف في السنوات السابقة.

وإذا كان "ترف الاعتكاف" قابلاً للتطبيق سابقاً، ولو أنّه غير جائز منطقياً، إلا أنّه لا يمكن أن يكون خياراً مُتاحاً اليوم، في ظلّ الانهيار الحاصل على كلّ المستويات، والذي يسرّع كلّ يومٍ يضيع الطريق السريع نحوه، ولهذه الأسباب، جاءت صرخة الراعي، كما يقرأها بعض المتابعين، بمثابة محاولةٍ لإعادة تحريك "المياه الراكدة"، لعلّها تفضي إلى "مبادرةٍ" يقوم بها الحريري، من بوابة إعادة الاعتبار لـ"الشراكة".

ولعلّ تركيز البطريرك الراعي على هذه "الشراكة"، من خلال دور رئيس الجمهورية في عملية تأليف الحكومة، يحمل من جهته الكثير من الدلالات، علماً أنّ الرجل، حين رفض التشكيل "بالتقسيط"، كان ينطلق من التسريبات التي كثُرت في الأيام القليلة الماضية، حول أنّ الحريري أراد "حسم" الحصّة المسيحيّة مع رئيس الجمهورية، بمُعزَلٍ عن الحصص الأخرى "المقفلة"، وهو تقاطع بذلك مع نظرية "وحدة المعايير" التي يرفع "الوطني الحر" لواءها منذ اليوم الأول لتكليف الحريري.

وقد تكون المشكلة الأكبر في طرح رئيس الحكومة المكلَّف، بمنظار المسيحيّين، تتعلق بـ"تجاهلهم"، فبعد قفزه فوق عدم تسميته من قبل أكبر كتلتين نيابيتين مسيحيّتين، ها هو يسير بملفّ تأليف الحكومة بإصرارٍ على عدم العودة إليهم، فلا "القوات" ولا "الكتائب" معنيّتان بالملفّ، بعدما غيّبتا نفسيهما ذاتياً، ولا "التيار" معنيّ بإصرار الحريري على رفض "كسر الجليد" مع رئيسه ​جبران باسيل​، في وقتٍ يؤكد الجميع أنّ دعم "المردة" لن يكون كافياً، فضلاً عن كونه لا يؤمّن، وحده، لأيّ حكومةٍ "الثقة" المنشودة.

هل يكسر الصمت؟

لم يعلّق الحريري على "انتقادات" البطريرك الراعي، لا سلباً ولا إيجاباً، مواصلاً سياسة "الصمت" المُعتمَدة من قِبَله منذ اليوم الأول للتكليف. لكنّ هذه السياسة سَرَت هذه المرّة حتى على قياديّي تيار "المستقبل" والمقرّبين من الحريري، الذين "تحفّظوا" عموماً عن التعليق على الكلام "المُباح" للبطريرك، بانتظار اتّضاح الصورة أكثر.

إلا أنّ عدداً من المحسوبين على رئيس الحكومة المكلَّف يتحدّثون عن "ظلمٍ" يتعرّض له، بمُعزَلٍ عن مواقف الراعي، التي بُنيَت أصلاً على "تسريباتٍ" يقول هؤلاء إنّها تفتقد إلى الكثير من الدقّة، على رأسها التسريب الذي بات "شبه يقين"، ويتمّ التعامل معه كما لو أنّه من "الثوابت"، لجهة أنّ "​الثنائي الشيعي​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" هم من اختاروا الوزراء الدروز والشيعة، بالأسماء والحقائب، وصدّق عليهم الحريري، في حين يتعامل مع المسيحيّين "بالمقلوب"، بحيث يصرّ على أن يسمّي وزراءهم بنفسه، على أن يوافق عليهم عون.

ويشير هؤلاء إلى أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، بل إنّ أيّ حصّةٍ لم تُحسَم، وأنّ "التقسيط" الذي تحدّث عنه الراعي قد يكون صحيحاً من ناحية أنّ الحريري يؤجّل البتّ ببعض الحقائب والأسماء، ريثما تُحَلّ "العقدة المسيحية"، باعتبار أنّ باقي الحصص لن تشكّل "عقدة" استناداً إلى "التفاهمات" التي أبرمها مسبقاً، علماً أنّ الحريري كان واضحاً منذ اليوم الأول، في إعلانه نيّته تشكيل حكومة اختصاصيّين "غير حزبيّين"، وهو لن يحيد عن هذه "الثابتة" قيد أنملة، تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، ومهما كانت المعوّقات.

لكن، بمُعزَلٍ عن كلّ هذه التفاصيل، يأمل هؤلاء أن تؤدّي "صرخة" الراعي إلى إحداث "خرق" على خطّ تأليف الحكومة، لناحية "تليين" المواقف، بما يمكن أن يسهم في "تنازلاتٍ متبادلة" تعيد الملفّ إلى "الصراط المستقيم"، علماً أنّ المقرّبين من الحريري يؤكدون أنّه أبعد ما يكون عن "عزل" أو "إقصاء" أيّ فريق أو مكوّن سياسيّ أو طائفيّ، خصوصاً أنّه حرص على "التشاور" مع رئيس الجمهورية منذ اليوم الأول، انطلاقاً من احترامه للدستور، ولمبدأ "الشراكة" قبله، ولو أنّ "التفاهمات" اصطدمت ببعض العراقيل من هنا وهناك.

"اعتكاف" وارد؟!

ثمّة من تحدّث عن "مبادرةٍ" قد يقوم بها الحريري في الساعات المقبلة، لـ"إحياء" الملفّ الحكوميّ المترنّح، خصوصاً أنّ كلام الراعي أصابه بأضرارٍ معنويّة كبيرة، وهو الذي حاول منذ اليوم الأول أن يرمي "الكرة" في ملعب "العهد"، ويصوّره كأنه "المُعطّل" الأوحد.

لكن، في المقابل، ثمة من يخشى أن تكون ردّة الفعل "معاكسة"، فيذهب الحريري إلى خياراتٍ "اختبرها" في العديد من محطّات التكليف السابقة، حين كان يسافر الخارج، معلناً "الاعتكاف"، بانتظار أن "يتّفق" الأفرقاء فيما بينهم على تسهيل مهمّته، ويبلغوه ليعود أدراجه.

مثل هذا الأمر لا يمكن أن يكون مُتاحاً اليوم، في ظلّ الواقع الكارثيّ الذي تشهده البلاد، وإن كان كلّ شيء وارداً في لبنان، حيث لا تزال الحكومة تخضع لآليّة المحاصصة التقليديّة، وتُجمَّد كرمى لعيون هذا الطرف أو ذاك، من دون أيّ اعتبارٍ لمآسي الناس وأزماتهم التي لا تنتهي!.