حماية مستوى معيشة الناس بعودة الدولة للاتجار بالمحروقات و​القمح​ و​الدواء​ ووضع حدّ للاحتكار.. والسير في عملية التدقيق المالي في حسابات مصرف ​لبنان​ وإدارات الدولة بعد قرار ​مجلس النواب​ بالأمس في هذا الصدد، مطالب باتت مُلحّة جداً ولا تحتمل التأخير إطلاقاً للخروج من نفق ​الأزمة​ المظلم..

وإذا كان موضوع التدقيق يحتاج إلى وقت حتى يتمّ إنجازه من قبل شركة التدقيق، فإنّ حماية الوضع المعيشي للبنانيين يتطلب تحركاً سريعاً من قبل حكومة ​تصريف الأعمال​ لسببين:

السبب الأول، تجنّب تداعيات عدم قدرة ​مصرف لبنان​ على مواصلة تأمين ​الدولار​ات المطلوبة لاستمرار دعم السلع والمواد الحيوية من ناحية، والحفاظ على ​أموال المودعين​ المتبقية في مصرف لبنان من أن يجري المسّ بها، والتي جرى إهدار قسم كبير منها، ولم يتبقّ سوى 17,1 مليار دولار على ما يقول حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​ من ناحية ثانية..

السبب الثاني، منع الانهيار يقتضي مغادرة سياسات انتظار مجيء الفرج من الخارج، والعمل على إحداث تغيير في سياسات الدولة بدءاً باستعادة موارد أساسية، تسهم في تغذية الخزينة العامة من جهة، والحفاظ على أسعار السلع الحيوية الأساسية لمنع حصول تدهور خطير في قدرة الناس الشرائية من جهة ثانية.. فمن المعروف بأنه في حال حرّرت ​أسعار المحروقات​ والقمح والدواء، سوف تلتهب معها أسعار كلّ السلع ويصبح الوضع المعيشي للطبقات الاجتماعية المحدودة الدخل جحيماً لا يُطاق… لأنها ستفقد القدرة على تأمين الحدّ الأدنى من ضرورات العيش..

لكن هل الحلول متاحة أمام حكومة تصريف الأعمال، بالحدّ الأدنى، وأن ما ستقدم عليه لا يتعارض مع حدود دورها في هذه الحالة؟

1 – من واجب حكومة تصريف الأعمال القيام بهذه المهمة الملحّة والضرورية والتي لا تحتمل التأجيل وانتظار تشكيل حكومة جديدة، وذلك يعود إلى عاملين أساسيين:

العامل الأول، وجود الظرف الاستثنائي الذي ينطلق من ضرورة حماية المصلحة العامة التي توجب الإسراع في اتخاذ مثل هذه إجراءات من قبل حكومة تصريف الأعمال لاستيراد المواد الأساسية بما يكفي حاجة السوق المحلية..

العامل الثاني، الحاجة لاتخاذ قرار استيراد هذه المواد والسلع من دول أبدت الاستعداد لدعم لبنان، انْ كان عبر قبول العملة اللبنانية بدلاً من الدولار، أو عبر المقايضة بمنتجات لبنانية زراعية وصناعية…

2 – يستطيع رئيسا ​الجمهورية​ و​الحكومة​ بالاتفاق بينهما تفعيل عمل حكومة تصريف الأعمال وأخذ المبادرة لتحمّل المسؤولية في هذا المضمار وعدم انتظار تشكيل حكومة جديدة، في حين انّ لبنان بأمسّ الحاجة لاتخاذ إجراءات تحمي البلاد من الانهيار الشامل وتوفر الأساس لعودة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، أقله الآن، في هذه المجالات الحيوية التي كانت أصلاً بيد الدولة قبل أن يجري التخلي عنها للشركات الخاصة التي تتاجر بها وتحقق الأرباح الطائلة..

وما يزيد من إلحاحية ذلك ما كشفته المعلومات عن أنّ أحد الشروط التي طلبتها ​السفيرة الأميركية​ ​دوروثي شيا​، من رئيس ​التيار الوطني الحر​ النائب ​جبران باسيل​، هو عدم توجّه لبنان صوب الشرق وإقامة علاقات تعاون اقتصادي مع ​الصين​ و​إيران​ و​روسيا​ وسورية و​العراق​، في مقابل عدم فرض العقوبات عليه، والواضح انّ الهدف من ذلك منع لبنان من ان يصبح متحرّراً من الارتهان والتبعية للولايات المتحدة والدول الغربية والضغوط التي تمارسها على لبنان لإخضاعه لشروطها وإملاءاتها…

وهذا يوضح لنا حقيقة الارتباط بين تصاعد وتسعير حدة الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية المعيشية التي بات يعاني منها لبنان و​اللبنانيون​، والضغوط الأميركية الغربية.. فهذا الارتباط شديد الصلة ولا يمكن فصله عن تفاقم الأزمة وتعطيل الحلول لها، ويتطلب مواجهته، لتدارك المزيد من الانهيار، الخروج من دائرة الضغوط الأميركية، أو الخوف من تداعياتها في حال الإقدام على قبول المساعدات من دول الشرق، يتعمّد الغرب حجبها عن لبنان..

إذن عودة الدولة لاستيراد المواد والسلع الحيوية، وقبول المساعدات في هذه المجالات من دول الشرق، تمثلان المفتاح المتاح راهناً لمنع الانزلاق الى مستنقع الانهيار الشامل.. وهذا يظهر مجدّداً كم أضعنا من الوقت عندما تردّد فريق الأغلبية في عدم دعم وتغطية حكومة الرئيس ​حسان دياب​، قبل دفعها للاستقالة، بالتوجه شرقاً في إطار خطة لتنويع علاقات لبنان الاقتصادية وقبول عروض المساعدات، التي لو تمّ قبولها لما كنا اليوم أمام هذا المأزق الخطير الذي يزداد خطورة مع كلّ يوم جديد يتردّد فيه المسؤولون في اتخاذ قرار كسر جدار الحصار الأميركي الإرهابي، الذي لم يعد، بعد فرضه، ما يخيف لبنان منه في حال أقدم على كسره، لأنّ الثمن قد دُفع…

والسؤال المطروح هو، هل تقدم الأغلبية النيابية على تفعيل حكومة تصريف الأعمال لاتخاذ مثل هذا القرار الاستثنائي والضروري والمُلحّ لحماية أمن واستقرار البلاد من الانهيار الشامل الذي يهدّد به الأميركي إذا لم يتمّ الرضوخ لشروطه المدمّرة؟

الجواب نعم، فقد نصّ ​الدستور​ على صلاحية حكومة تصريف الأعمال في مثل هذه ال​حالات​ الضرورية بالقول «… تدابير الضرورة تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام و​أمن الدولة​ الداخلي والخارجي وكذلك الأعمال الإدارية التي يجب إجراؤها في مهل محدّدة بالقوانين تحت طائلة السقوط والابطال».

على مستوى آخر جاء في تفسير ​المفكرة القانونية​ لتصريف الأعمال في حالات الضرورة بالقول: «يشكل تصريف الأعمال ضرورةً، إذ لا يجب أن يؤدّي تقليص صلاحيات الحكومة وحصرها في نطاقٍ ضيّق إلى الاضرار بمصلحة الدولة عبر تعطيل عمل المؤسسات وتهديد استمرارية المرفق العام. لذلك، تعتبر ممارسة الحكومة لصلاحياتٍ ما، رغم الحدّ منها بعد استقالتها، شرطاً ضرورياً. إذ لا يُعقل القبول بالفراغ المطلق في ​السلطة​ إلى حين تشكيل حكومة جديدة. وقد أشار ​مجلس شورى الدولة​ الفرنسي إلى هذا الأمر في القرار الأول له الذي يتطرق إلى مسألة تصريف الأعمال بشكلٍ صريح».

يقول رئيس مجلس النواب السابق ​حسين الحسيني​ «إنّ ​القاعدة​ الدستورية ثابتة ومحدّدة بأنّ للحكومة حق الانعقاد ويجب ان تنعقد طالما لم يتمّ ​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​ بعد». ومثل هذا المبدأ يبقى سارياً، وفق الحسيني «طالما انّ الحكومة لم تتشكل بعد».

ويتوافق الخبير الدستوري الوزير السابق ​زياد بارود​ مع الحسيني، متحدثاً عن نوعين من المراسيم «العادية والتي تستلزم توقيع رئيسي الجمهورية والحكومة والوزير المختص، وتلك التي يتخذ قرارات بشأنها في ​مجلس الوزراء​ خلال جلسة للحكومة يتوافر فيها النصاب». ويؤكد على «إمكانية انعقاد حكومة تصريف الأعمال شرط حصر بحث الملفات التي تريد البت بها في جلسة واحدة، وليس أن تعتبر الحكومة نفسها في حالة انعقاد عادية، مستشهداً بحالات مماثلة حصلت بعد ​الطائف​، الاولى عام 2009 يوم اجتمعت حكومة ​فؤاد السنيورة​ لإقرار أمر طارئ، والثانية عام 2013 يوم اجتمعت حكومة ​نجيب ميقاتي​ استثنائياً لتشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات». ويربط بارود عقد الجلسة «بوجود حالات طارئة ولا تحتمل التأجيل، ولا يرتب الأمر أعباء مالية على الدولة، ولا ترتب التزامات على الحكومة التي تعقبها».

بناء عليه، هل هناك أهمّ من ضرورة حماية الاستقرار الاجتماعي من خطر الانهيار في ضوء ​الوضع المالي​ الصعب، والحاجة إلى تدخل حكومة تصريف الأعمال كي تتخذ قراراً ضرورياً للحيولة دون تعرّض اللبنانيين لخطر داهم يمسّ وضعهم المعيشي ويهدّد معه الاستقرار في البلاد…

فهل تقدم حكومة دياب على القيام بهذه المسؤولية المستعجلة، وهي بكلّ الأحوال أهمّ بكثير من المبرّرات التي دفعت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة المستقيلة عام 2009 للاجتماع وإصدار مراسيم استثنائية…

انه التحدي… برسم فريق الأغلبية الذي تتكوّن منه حكومة تصريف الأعمال ب​رئاسة​ الرئيس ​حسن دياب​، فهل يقدم على تدارك الخطأ، الذي وقع فيه سابقاً، بمفعول رجعي…؟