في اليوم العالمي للتضامن مع قضية ​فلسطين​ وكفاح شعبها ضدّ الاحتلال تحضر وبقوة اتفاقيات الانفتاح وإقامة العلاقات مع كيان العدو الصهيوني، التي شكلت قمة التراجع والتخلي من قبل بعض الأنظمة العربية عن قضية فلسطين باعتبارها قضية العرب المركزية الأولى في الصراع العربي الصهيوني… غير أن ما يجب لفت الانتباه إليه إنما هو الخرق الأخطر في جدار العزلة من حول الكيان الصهيوني، الذي حصل بعد اتفاقية ​كامب ديفيد​ بين الرئيس المصري السابق ​أنور السادات​ ورئيس وزراء العدو مناحيم بيغين، وهذا الخرق يكمن في توقيع اتفاق ​أوسلو​ بين قيادة ​منظمة التحرير الفلسطينية​ وحكومة العدو الصهيوني ب​رئاسة​ ​إسحاق رابين​، وإعلان قيادة المنظمة، بعد الاتفاق، عن تعديل ميثاقها الوطني والتخلي عن الكفاح المسلح والنضال الوطني التحرري لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، والاعتراف رسمياً بوجود «إسرائيل» على ٧٨ بالمئة من أرض فلسطين التاريخية، والقبول بأن ينحصر التفاوض على ​تقرير​ مصير ​الضفة الغربية​ و​قطاع غزة​ والقسم الشرقي من ​القدس​ المحتلة باعتبارها «أراضي متنازع عليها» .. هذا التطور هو الأخطر الذي تسبّب بالانقسام في الساحة الفلسطينية، وإضعاف التضامن الأممي مع نضال ​الشعب الفلسطيني​ ومقاومته ضدّ الاحتلال، وفتح الباب على مصراعيه أمام الأنظمة العربية، التي يقيم مسؤولوها علاقات سرية مع المسؤولين الصهاينة، لأجل التجرّؤ على عقد لقاءات علنية وتبرير ذلك بأنّ قيادة منظمة التحرير عقدت اتفاقاً مع «إسرائيل» وانّ قياداتها تلتقي مع المسؤولين الإسرائيليين، وتنسق معهم أمنياً وهم يواصلون المفاوضات لأجل التوصل إلى حلّ نهائي للصراع، فلماذا تريدون منعنا وحرماننا من الانفتاح على «إسرائيل» وإقامة العلاقات معها، وتريدون منا أن نكون «ملكيين أكثر من الملك…»

والنتيجة كانت انضمام أنظمة عربية أخرى إلى مسار توقيع اتفاقيات الاعتراف والانفتاح على الكيان الصهيوني، في سياق خطة ​الإدارة الأميركية​ برئاسة الرئيس ​دونالد ترامب​ وبالتنسيق مع رئيس ​الحكومة​ الصهيونية بنيامين ​نتنياهو​، لفرض تطبيق خطة القرن وتصفية ما تبقى من حقوق وطنية فلسطينية تشكل مجمل ما عُرف بقضايا الوضع النهائي للتفاوض بشأنها.. وطبعاً هذا الطرح الأميركي الصهيوني يندرج في سياق المشروع الصهيوني لحسم الصراع على أرض فلسطين وإعلان ​الدولة اليهودية​ ​العنصرية​ فقط، والقول بأنه لا حقّ للفلسطينيين في أرض فلسطين وبالتالي لن تكون هناك دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس، وعلى ​الفلسطينيين​ العيش في مناطق تواجدهم في ​فلسطين المحتلة​ كمواطنينَ من الدرجة الثانية، كما كان حال المواطنين السود في ​جنوب أفريقيا​ ايام نظام الفصل العنصري…

من هنا يجب أن يبدأ ​النقاش​ فلسطينياً، فصائل وقوى وفعاليات وطنية وشعبية، لإجراء مراجعة شاملة لما حصل منذ أن تمّ طرح خيار الحلّ السلمي للصراع والعمل على تزيين هذا الطرح باعتباره الخيار الممكن والأقلّ كلفة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض محتلة وحقوق مسلوبة..

انّ أهمية وضرورة إجراء هذه المراجعة والنقاش لكلّ تلك المرحلة التي قادت إلى توقيع أوسلو وصولا إلى اليوم، إنما لأجل ما يلي..

أولاً، استخلاص الدروس والعبر والعودة إلى الأسس والمبادئ التي قامت ونشأت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، منذ كان ميثاقها ميثاقاً قومياً انطلاقاً من أن فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي وتحريرها إنما هو واجب كلّ عربي، وأنّ الشعب العربي الفلسطيني إنما هو رأس الحربة في هذه المعركة العربية، ذات الأبعاد العربية والإسلامية والأممية لما تجسّده من قيم الحق و​العدل​ والانسانية…

هذا يعني أنه يجب استعادة منظمة التحرير لدورها الحقيقي كحركة تحرر وطني تؤمن بأنّ فلسطين كلها بحدودها التاريخية هي أرض الشعب العربي الفلسطيني، وجزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وأنّ المستعمرين والمستوطنين الصهاينة إنما هم غزاة احتلوا هذه الأرض بدعم من الاستعمار الغربي، والأنظمة التي تمّ تركيبها في كنفه..

ثانياً، استعادة دور منظمة التحرير تستدعي وتفرض بالضرورة إسدال الستار نهائياً على اتفاق أوسلو وما رسمه من أوهام تسووية مع عدو غاصب للأرض والحقوق.. الصراع معه صراع وجود، صراع على هوية الأرض، والرواية التاريخية لهذا الصراع الذي يسعى العدو إلى تزويره وطمسه بإنكار المجازر الإرهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية وتشريد معظم السكان الأصليين أصحاب الأرض الحقيقيين من أبناء شعب فلسطين عام 1948.. فمن الوهم تصوير إمكانية استعادة منظمة التحرير لدورها، كاطار جامع لكلّ الفصائل والحركات الفعاليات الوطنية الفلسطينية، من دون إعلان الخروج من أوسلو وسحب الاعتراف بكيان العدو الصهيوني، وحلّ ​السلطة الفلسطينية​ التي أرادها الاحتلال الصهيوني، ولم يزل، أداة لإضفاء «الشرعية» على احتلاله ووجوده من ناحية.. واستطالة أمنية لقمع المقاومين والمناضلين الذين يرفضون الاستسلام للأمر الواقع الصهيوني واتفاق أوسلو من ناحية ثانية.

ثالثا، العودة إلى ترسيخ ثقافة المقاومة وان تحرير فلسطين وعودة أبنائها إلى أرضهم وديارهم التي شرّدوا منها منذ احتلال فلسطين عام 1948، لا يمكن أن يتمّ إلا عبر ​المقاومة الشعبية​ المسلحة، وليس عبر المراهنة على الحلول السلمية، وهذا الأمر يستدعي العودة إلى بناء حركة المقاومة العربية الفلسطينية التحررية على أسس استراتيجية لخوض النضال الطويل النفس الذي تؤطر فيه كلّ طاقات الشعب العربي الفلسطيني تحت لواء قيادة وطنية تؤمن بهذه الإستراتيجية التحررية.. لا سيما أنّ هذه الاستراتيجية أثبتت نجاحها في ​لبنان​ وقطاع غزة، وليس فقط ضدّ الغزاة المحتلين، في القرن الماضي، في ​فيتنام​ و​الجزائر​ و​اليمن​ و​الصين​ و​كوريا​ إلخ…

رابعاً، استنهاض الشارع الفلسطيني وتعزيز التفافه حول استراتيجية المقاومة الشعبية المسلحة لتحرير فلسطين، هو السبيل لاستنهاض الجماهير العربية والاسلامية واستعادة التضامن الأممي إلى جانب قضية فلسطين ومقاومة شعبها الصامد.. فهذا النهوض والتضامن، تراجع بعد توقيع اتفاق أوسلو وتخلي قيادة منظمة التحرير عن طريق المقاومة الشعبية المسلحة، مما أحدث انقساماً خطيراً في الساحة الفلسطينية أثر سلباً، ليس فقط على ​مسيرة​ النضال الوطني الفلسطيني، وإنما أضعف أيضاً الدعم والتأييد والالتفاف الجماهيري العربي والإسلامي والأممي.. واستفاد من ذلك الانقسام، إيما استفادة، العدو الصهيوني الذي عمل على تغذية الانقسام، وجعل من اتفاق أوسلو وسيلة لتكريسه وإدامته لأنه حقق ويحقق له ما حلم ويحلم به من أطماع ومشاريع استيطانية في الأرض الفلسطينية، حيث من المعروف انّ هذا المشاريع الاستيطانية انتعشت بصورة خطيرة في ظلال أوسلو…

خامساً، العودة إلى تحديد معسكر الأعداء والأصدقاء، واستطراداً التحالفات، حتى لا تقع منظمة التحرير مجدّداً في فخ الارتماء في أحضان الأنظمة الرجعية التابعة للاستعمار، وهو ما يفرض بالضرورة ان تكون منظمة التحرير جزءاً لا يتجزأ من حلف المقاومة في المنطقة، فهذا الحلف يشمل سورية والمقاومات العربية المنتصرة في لبنان و​العراق​ واليمن، ويستند إلى دعم أساسي وقوي من ​إيران​ – ​الثورة​ التي رفعت راية فلسطين وأسقطت راية الصهاينة منذ لحظة إعلان انتصارها على نظام الشاه التابع للولايات المتحدة والذي كان تربطه علاقات التعاون والتنسيق مع كيان العدو الصهيوني…