حين تم الحديث عن ​مؤتمر​ دولي ثانٍ ينعقد تلبية لدعوة الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ ل​مساعدة​ ​لبنان​، تبادر الى الاذهان فوراً ان الحصيلة ستكون مالية وربما مبالغ قد تساهم ولو بشكل ضئيل، في التخفيف من حدة الازمة الماليّة والنقديّة والاقتصاديّة التي يعاني منها لبنان. ولكن، سرعان ما تبيّن ان المؤتمر الثاني يتجه نحو نوع آخر من الرسائل الموجّهة الى اللبنانيين، بعيدة عن الاموال والناحية الاقتصاديّة، وتتعلق اولاً واخيراً ب​السياسة​. من حيث الشكل، عاد ماكرون الى الساحة ليؤكّد انّ قبضته التي ارتخت بعض الشيء في المسألة اللبنانيّة عادت الى قوّتها المعهودة والمتوقّعة، فهو أظهر قدرته على إعادة جمع ​العالم​ لمساعدة لبنان من جهة، (ولم يحتج فعلياً الى ​الامم المتحدة​ ولا الى امينها العام سوى شكلياً واحتراماً فقط) وأنّه لا يزال رئيس دولة عظمى يجب الاستماع اليها عند الطلب من اللبنانيين القيام بعمل ما، مع تنسيقه بشكل أقوى حتماً مع الادارة الاميركيّة ​الجديدة​، وهذا ما سيبلغه بشكل حاسم الى اللبنانيين عند عودته الى ​بيروت​ خلال الشهر الحالي.

وفي حين كانت الرسائل التي حملها المؤتمر الاول مادّية بغالبيّتها، أتت الرسائل في المؤتمر الثاني لتشدّد على انّ المعالجة ليست مادّية فقط، وان الازمة الاقتصاديّة متأتّية من المشكلة السّياسية وليس العكس، وانه يجب ايجاد الحلول السّياسية اولاً لفتح الباب امام الحلول الماليّة. من هنا يمكن فهم تشديد الجميع في كلماتهم على قيام ​حكومة​ قادرة وفاعلة تستند الى الشفافيّة والقدرة على المحاسبة، لوضع الخطوات الاولى على طريق الاصلاح وانقاذ لبنان. ويدرك الجميع ان هذا الامر ان لم يكن مستحيلاً، فهو بأفضل الاحوال بالغ الصعوبة، ولكنّهم يعلمون ايضاً ان الضغط على الداخل هو أحد الاساليب الناجعة ل​تحقيق​ الامور في لبنان، فيما "النقّ" على الخارج هو الاسلوب الناجح. يقوم ماكرون بدوره في الناحيتين، ولكنه يرغب بكل تأكيد فصل المسار اللبناني عن الموافقة الاميركيّة لتسيير أموره، وحصر الموضوع فقط بالفرنسيين، وهو ما سيسعى اليه في اتّصالاته المقبلة مع الرئيس الاميركي الجديد ​جو بايدن​ فور تسلمه مهامه بشكل رسمي.

توحّدت الرسائل السّياسية خلال المؤتمر حول وجوب تشكيل حكومة جديدة تستلم زمام الوضع في لبنان وتضعه على السكة الصّحيحة عبر جعل الغرب والعرب يثقان بها، فيما اختلفت النظرة مجدداً الى واقع المشكلة السياسية اللبنانية، حيث كان مساعد ​وزير الخارجية​ الاميركي لشؤون ​الشرق الاوسط​ دايفيد هايلاكثر قساوة وتشدداً في وصف القادة اللبنانيين والقاء اللوم على "​حزب الله​" في كل المشاكل التي حلت بالبلد ومواطنيه. في المقابل، كان لافتاً إعادة التأكيد على التواصل مع اللبنانيين عبر الجمعيات والمنظمات غير الاهليّة و​الجيش اللبناني​، ما يعني بكلمة اخرى، استمرار المحافظة على الستاتيكو الحالي الى حين تحقيق تقدّم ملموس، وعدم الخوف من انهيار او افلاس شامل يؤدّي الى استبباب الفوضى والتفلّت وفقدان الهويّة اللبنانيّة.

سيحاول ماكرون ان يكسب المعركة اللبنانية قبل تسلم بايدن مهامه بشكل رسمي في ​واشنطن​، ولكنّه سيأخذ في الاعتبار ايضاً عدم قدرته على تحقيق هذا الهدف، وسيضمن تقطيع الوقت بشكل مضبوط (مع استمرار الازمة بطبيعة الحال) ريثما تنضج عوامل التسوية التي يتمّ التحضير لها من قبل الفرنسيين قبل غيرهم، فيتشارك الخطوات المقبلة مع الاميركيين، بنسبة نفوذ فرنسيّة أقل مما كان ينتظره، واكثر مما تخبئه الفوضى في لبنان والتفلّت الامني والاقتصادي والمالي. ويمكن فهم اذذاك "لطشة" هايل القاسية بحق المسؤولين اللبنانيين وادخال "حزب الله" في الموضوع من هذا السياق، لأنّ ​الادارة الاميركية​ الجديدة لن تفرش طريق الحزب و​ايران​ بالورود، لكنها لن تفخّخه ايضاً لانه سينعكس سلباً عليها، وستعمد على ما يبدو الى التخفيف من حدة التدابير المتّخذة مع التشديد على كلمة تخفيف وليس الغاء.