أخيراً، وبعد ثلاثة أسابيع من الجمود والشلل التام، على وقع ما يشبه "الاعتكاف" غير المُعلَن لرئيس الحكومة المُكلَّف ​سعد الحريري​، عاد الملفّ الحكوميّ ليتحرّك، نسبياً، ولو أنّ "الحركة" المرصودة على خطه، وبالتوازي على خط بيت الوسط-بعبدا، تبقى، "بلا بركة"، حتى إثبات العكس، وولادة الحكومة "الإنقاذيّة" المُنتظَرة.

ولعلّ "الإيجابيّة" الكامنة خلف الحراك المُستجِدّ، بعيداً عن كلّ الأخذ والردّ الذي سبقه وتلاه، تكمن في "إحياء" الحديث عن الحكومة قبل أيّ شيءٍ آخر، خصوصاً أنّ "التسريبات" لم تتوقف طيلة الأسبوع الماضي عن زيارةٍ من هنا، ووساطةٍ من هناك، إلا أنّها بقيت "حبراً على ورق"، مع رصد "تريّث" لدى الحريري، في المبادرة لأيّ خطوةٍ قد تُفسَّر في غير موضعها.

وإذا كان كثيرون ردّوا "تردّد" الحريري طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية، وإحجامه عن زيارة ​الرئيس ميشال عون​ بالمُطلَق، لاستكمال مشاورات التأليف، في إطار "ارتباكه" الذي لم يعد خافياً على أحد، ولو غطّاه بما سُمّيت "استراتيجيّة الصمت"، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو، هل زالت أسباب هذا "الارتباك"، وبات التفاؤل بولادةٍ حكوميّة قريبة واقعيّاً؟.

"اعتكاف" غير مُعلَن؟

بمُعزَلٍ عن النتائج المتوخّاة للحراك الحكوميّ المُستجِد مقارنةً بما تحقّق، والهواجس "المشروعة" من عودة الأمور إلى "النقطة الصفر"، ثمّة من يؤكد أنّه يبقى "أفضل الممكن" في الوقت الحالي، انطلاقاً من كونه أنهى، بصورةٍ أو بأخرى، ما يمكن وصفه بـ"اعتكاف" غير مُعلن اعتمده الحريري منذ زهاء ثلاثة أسابيع، أسوةً بجولات "الاعتكاف" التي كانت ترافق معظم محطّات التكليف التي خبرها سابقاً، حين كان يغادر البلاد، تاركاً عبء "فكفكة العُقد" على كاهل سائر الفرقاء، و"استدعائه" عند التوصّل إلى حلولٍ وتوافقات.

ولأنّ الواقع اليوم لا يشبه شيئاً من واقع الأيام السالفة، أقلّه من حيث الظاهر، وتحديداً من حيث طريقة الحريري نفسه في إدارة الملفّ الحكوميّ، هو الذي طلب من سائر الفرقاء أصلاً "التنحّي جانباً"، وتركه يؤلّف، بالتشاور مع ​رئيس الجمهورية​، حكومة اختصاصيّين تقنيّين أرادهم مستقلّين في البداية، ثمّ ارتضى بالاكتفاء بكونهم "غير حزبيّين"، لم يكن من الممكن ولا الجائز أن يواصل الحريري السير على درب "الاعتكاف"، خصوصاً مع بدء الأصوات المعترضة عليه بالارتفاع في الداخل كما الخارج، وما تصريحات الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ "المندّدة" بسلوك الطبقة السياسية سوى "رسالة واضحة" في هذا الإطار.

ويقول العارفون إنّ ما "كبّل" الحريري بالدرجة الأول، تمثّل بالعلاقة "الملتبسة" مع رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، الذي لم تعد "الكيمياء" معه "راكبة"، بعد سنواتٍ من التقاطع والتناغم المُبالَغ به، الأمر الذي انعكس جلياً على العلاقة مع رئيس الجمهورية واللقاءات المشتركة بينهما. فمع أنّ مكتب الإعلام في الرئاسة كان يصرّ دوماً على وصفها بـ"الإيجابية"، كانت المصادر المطّلعة تؤكد وجود "صعوباتٍ" بالجملة، تظلّلت بعبارة "وحدة المعايير" التي بات عون يكرّرها مع كلّ لقاء، في العلن وفي الكواليس، والتي تخفي وراءها دعوةً صريحةً وجّهها للحريري إلى المبادرةللتشاور مباشرةً، لا مواربةً، مع باسيل.

ضغوط وهواجس...

ما سبق قد لا يكون سوى الجزء "الظاهر" من ​الأزمة​، ومن "ارتباك" الحريري، الذي أوحى يوم أعلن نفسه "مرشّحاً طبيعياً" ل​رئاسة الحكومة​، أنّ المهمّة لن تستغرق منه أكثر من أيامٍ قليلةٍ، وأنه سيضرب "رقماً قياسياً" في سرعة ​تشكيل الحكومة​ خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ الانسحاب السوري، باعتبار أنّ الأمر كان يأتي "معلَّباً وجاهزاً" في أيام الوصاية بعد ​اتفاق الطائف​.

إلا أنّ لـ"ارتباك" الحريري جوانب أخرى، قد تفوق العلاقة "الشخصيّة" مع باسيل، بكلّ تعقيداتها الظاهرة والمبطنة، أهمية، خصوصاً إذا ما كان مرتبطاً بعوامل خارجيّة كما تجزم الكثير من الأوساط المُتابعة، التي تلفت إلى أنّ "ارتباك" الحريري عائدٌ إلى "ضياعه" في ظلّ تعدّد "المرجعيّات"، والتناقض الكامن في متطلّباتها وشروطها، ف​فرنسا​ التي طرحت مبادرتها وتسعى لإيجاد موطئ قدم لها في ​لبنان​ تريد شيئاً، و​الولايات المتحدة​ التي تقول إنّها مع هذه المبادرة فيما تشوّش عليها على الأرض، تريد شيئاً مناقضاً.

ولعلّ "التعقيد" الأكبر الذي واجهه الحريري في هذا الإطار، تمثّل بالتلويح "جدّياً" بعقوباتٍ قد تُفرَض عليه، وهو ما تبلّغه من العديد من القنوات الوسيطة، رغم حرص المقرّبين منه على نفيه إعلاميّاً، علماً أنّ العارفين يؤكدون أنّ الحريري "جمّد" حراكه الحكوميّ عملياً بموجب هذه التهديدات، خصوصاً أنّه يدرك أنّه لا يستطيع تشكيل حكومة لا يرضى عنها "​حزب الله​"، عبر مشاركته فيها ولو بصورةٍ غير مباشرة، فيما الأميركيّون يقولون إنّهم يرفضون "التذاكي" عليهم، عبر تكرار تجربة حكومة حسّان دياب بصورةٍ أو بأخرى.

وما زاد الطين بلّة تمثّل في الموقف الخليجيّ، الذي لم يكن مسانداً ولا مساعداً للحريري، فصحيح أنّ "ليونة" طرأت على الموقف السعوديّ مثلاً، بعد ما أشيع سابقاً عن "فيتو" كان مطروحاً على ترؤس الحريري للحكومة العتيدة، إلا أنّها لم "تترجَم" عملياً، بل بدأت بالتراجع مع تقدّم الملف الحكوميّ، والشعور بأنّ الحريري "يراعي" خواطر "حزب الله"، فكانت خطواتٌ تصعيدية غير مسبوقة تجاه لبنان من ​السعودية​ و​الإمارات​ وغيرهما، ليس أقلّها "إبعاد" السفراء من دون إيجاد "بدائل"، ما كرّس "التباعد الكامل"، دبلوماسياً وسياسياً واستراتيجيّاً.

إلى العام المقبل!

لعلّ من المفارقات اللافتة أنّ الحراك الحكوميّ المستجِدّ، والذي قد تكون له تردّداته في القادم من الأيام، بدا محكوماً سلفاً بالفشل، برأي شريحةٍ واسعةٍ من اللبنانيّين، وبينهم مراقبون ومتابعون ومطلّعون، وحتى معنيّون مباشرةً من ملفّ الحكومة وسياسات صنع القرار.

ثمّة من يقول في هذا الإطار، إنّ هذا الحراك لا يعبّر عن "تقدّم فعليّ"، بقدر ما يندرج في سياق "تقاذف كرة المسؤولية"، فالحريري المُرهَق من اتهامه بالاعتكاف والتفرّج، يريد رمي الكرة في ملعب "العهد"، الذي لن يتأخّر في إعادتها إليه، متى دعت الحاجة.

وبين هذا وذاك، قد تكون الخلاصة "السلبيّة" التي تبقى "غالبة" حتى ظهور نقيضها، هي أنّ "لا حكومة ولا من يحزنون في المدى المنظور"، لأنّ الأجواء المؤاتية لها "لم تنضج" بعد، علماً أنّ البعض يذهب أبعد من ذلك بالتأكيد أن الحكومة "رُحّلت" إلى العام المقبل، وربما إلى ما بعد الربيع.

أمرٌ واحدٌ قد يعدّل هذا "السيناريو" السوداويّ، وهو أن "يتوب" المسؤولون، ويتّخذوا قراراً "مفاجئاً" بالنظر ملياً إلى حالة البلاد والعباد، وأن يفكّروا بالتاليبالمصلحة العليا وكيفية الخروج من مأزق الانهيار، فيستجيبوا للمبادرة الفرنسية أو غيرها، بعيداً عن المكاسب الآنيّة، إلا أنّ مثل هذا التفكير "الورديّ"، يبقى مُستبعَداً وأكثر!.