لم يكشف ​المجلس الأعلى للدفاع​ "المستور"، حين حذّر في جلسته الأخيرة، وفق ما تقاطعت التسريبات، منمخطّطاتٍ أمنيّة تُحاك في الكواليس، ومن سلسلة "اغتيالاتٍ" تُحضَّر ضدّ شخصيّاتٍ من الصفّ الأول، و"توتّراتٍ" توازيها بالحجم والأهداف.

باختصار، "استحضر" المجلس جهاراً، ما يتمّ الحديث عنه في الخفاء، منذ أسابيع، حول الوضع الأمنيّ "المُلتبِس" في البلاد، التي لا تبدو مستعدّة لأيّ "اختبارٍ ثقيل"، وهي المُنهَكة باستحقاقاتها الداهمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والتي لم تستفق من "غيبوبة" ​انفجار​ ​المرفأ​ بعد.

ومع أنّ بيان المجلس خلا من إشاراتٍ مباشرةٍ وصريحةٍ حول مثل هذه المخاوف والتهديدات الأمنيّة، وإن وردت بشكلٍ أو بآخر في كلام رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ حسّان دياب، فإنّ "تعمّد" المجلس تسريب "محضر" اللقاء الأمنيّ يحمل من الدلالات ما يحمل.

ولعلّ الدعوة إلى إجراءات "لمنع تهديد الاستقرار" كافٍ في هذا الإطار، فأيّ رسائل أراد المجلس إيصالها في هذا الإطار؟ وهل يمكن القول إنّ التهديد الأمنيّ حقيقيّ ووشيك، أم أنّه جزء من "عّدة" تقطيع الوقت المطلوبة في هذه المرحلة؟.

"نظرية المؤامرة"

يحلو للكثيرين، في ​لبنان​ وخارجه، إسقاط "نظرية المؤامرة" على كلّ ما يحدث من حولهم، فالمبادرة الفرنسيّة مثلاً، والتي حملت عنوان "إنقاذ" البلد، رُبِطت في بعض الأوساط بـ"مؤامرة" غير مرئيّة على البلاد والعباد، حتى أنّ هناك من "ارتاب" من تحريك ملفّ ​الحكومة​ هذا الأسبوع، ولو كان الأمر البديهيّ والمفترض، لا الاستثناء، فأعطاه تفسيراتٍ وأبعاداً لا تخطر على البال والخاطر.

لا يعني ذلك أنّ هذه "الفرضيّة" خاطئة دوماً، خصوصاً في بلدٍ كلبنان، حيث لا شيء يبدو "بعيداً" عن طبقةٍ حاكمةٍ أتقنت على مرّ السنوات، "ألاعيب ​السياسة​"، بل "مكرها وخبثها"، وباتت "تفصّل" كلّ الأحداث والمستجدّات، على "قياسها"، ووفق ما يحقّق مصلحتها، بل رغبتها وأهواءها، وحوّلت ​الدستور​ والقانون إلى "وجهة نظر"، بحيث يأتي "غبّ الطلب".

لهذه الأسباب، قد لا يكون غريباً مثلاً أن تنطبق هذه "النظرية" على البيان الأخير للمجلس الأعلى للدفاع، والأهمّ، على ما تبعه من "ترهيبٍ غير مسبوق"، اتّخذ صفةً علنيّة، على غير العادة. وفي هذا السياق، ثمّة من رأى في "استحضار" الهاجس الأمني "تبرئة ذمّة" من قبل المجلس، لتبرير اجتماعٍ أثار الجدل، بعدما اتُهِم ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ بـ"توظيفه" بما يخدم "صراعه" مع رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​، بعدما سدّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب الأبواب بوجهه.

وتبدو لدى أصحاب هذه "النظرية"، الكثير من "الأسباب الموجبة" التي تدعم وجهة نظرهم، باعتبار أنّ التهديدات الأمنية، لو صحّت، لتعيّن على الأجهزة متابعتها والتعامل معها بالتكتّم والسرّية، اللذين يشكّلان افتراضياً "عمود" العمل الأمنيّ المحترف، وكما كان يحصل دوماً، لا بالمبالغة في البوْح بها، كما حصل، وصولاً إلى "تضخيمها"، والإيحاء وكأنّ البلاد تقف على "فوهة ​بركان​"، في حين أنّ المسؤولين كانوا يتباهون قبل أسابيع قليلة بأنّ لبنان، رغم كلّ أزماته وكوارثه، لا يزال يتمتّع بـ "أمن نموذجيّ" مقارنةً بالجوار والمحيط.

الخطر قائم؟

على خطّ "نظرية المؤامرة" نفسها، ثمّة من يتحدّث عن نوايا غير بعيدة عن ​السلطة​، بـ "إلهاء" الرأي العام بالهاجس الأمنيّ، في إطار ما يمكن أن يندرج أيضاً ضمن "الأمن الاستباقي"، باعتبار أنّ البلاد مقبلةٌ في القادم من الأيّام على ظروفٍ قد تكون أصعب وأكثر مأساوية من تلك التي اختبرتها في الأشهر الأخيرة، وهو ما تغذّيه ​تقارير​ المنظمات الدولية، عن "فقرٍ" سيتضاعف دفعةً واحدة، وعن "كوارث اجتماعية" لن توفّر الأخضر واليابس.

وثمّة من يربط بين التحذيرات والتنبيهات من "خطر أمني وشيك"، وانطلاق "ورش العمل" الوزاريّة التي تتوخّى العمل على رفع الدعم عن الكثير من المواد الأساسيّة، ولو تحت عنوانٍ ملطَّف هو "ترشيد الدعم"، وذلك تفادياً لسيناريو احتجاجاتٍ شعبيّة واسعة، قد لا تكون السلطة قادرة على تحمّل تبعاتها في الوقت الراهن، خصوصاً إذا ما نجحت في إعادة "إشعال" وهج "الثورة" التي انطلقت قبل عامٍ، لأسبابٍ وظروفٍ تبدو بمثابة "ألف رحمة" للبنانيّين الذين يئنّون من الوضع اليوم، بعدما بات كلّ همّهم تأمين قوت يومهم.

لكن، ومع "واقعيّة" كلّ هذه "الحُجَج"، وأحقية "المنطق" الذي تستند إليه، فإنّها بمجملها لا "تلغي" وجود الخطر الأمنيّ، وفق ما يؤكد العارفون والخبراء، ممّن يلفتون إلى أنّ السياسيين "الخائفين والغيارى" على الأمن اليوم، قد وفّروا "​البيئة​ الخصبة" المثاليّة لكلّ من تسوّل له نفسه العبث بالاستقرار، من خلال تكريس الانقسام السياسيّ والمذهبيّ، بل تعزيزه وتغذيته بقوّة بصورةٍ يوميّة، من دون توفير الحدّ الأدنى من "التضامن الوطنيّ" المطلوب للمواجهة.

وقد يكون مسار ​تأليف الحكومة​ وحده كافياً للتعبير عن "عمق" ​الأزمة​، إذ من المستحيل لأيّ شعبٍ أن يواجه أخطاراً، كالتي تخشاها ​الأجهزة الأمنية​ اليوم، من دون حكومةٍ أصيلةٍ تكون على قدر التحدّيات، علماً أنّ "الرهان" على أن ينجح "الهاجس الأمني" في "استنفارهم" لتجاوز العقبات خائبٌ سلفاً، لأنّ ما عجز عنه انفجار المرفأ المشؤوم، لجهة تغيير "ذهنية" التعاطي، ولو لبعض الوقت، ومن باب "رفع العتب"، ليس إلا، لن يقوى عليه أحدٌ بالمُطلَق.

سياسيّون يلازمون منازلهم...

باختصار، قد لا يكون الحديث عن "خطر أمنيّ وشيك" لعبةً سياسيّة تستخدمها السلطة، لـ"ابتزاز" اللبنانيّين، كما يحلو لبعض مصدّقي "نظرية المؤامرة" أن يروّجوا.

فالوضع الأمنيّ ليس في أفضل أحواله، رغم الحديث المتكرّر عن "إنجازاتٍ" يحقّقها "الأمن الاستباقي"، عبر كشف خليّاتٍ إرهابيّة أو تكفيريّة هنا، والقبض على مجرمين هناك.

إلا أنّ الإقرار بذلك لا يعني "تبرئة ذمّة" السياسيّين، وفق قاعدة أنّهم "مُستهدَفون" مثلاً، لأنهم ليسوا "الضحايا"، وإنما "الجلادين"، وقد وفّروا كلّ أسباب عدم الاستقرار للبلد كلّه.

قد يكون صحيحاً أنّ بعض هؤلاء "يلازمون" منازلهم، ولا يكادون يغادرونها، كانعكاسٍ لجدّية التهديدات، وفق ما تؤكد بعض المصادر، ولكنّ الصحيح أنّ الشعب كلّه بات "أسير" تجاذباتهم التي لا تنتهي، ومحاصصاتهم التي لا تتوقّف، في "معركةٍ" لا تبدو نهايتها قريبة...