لم يكن أشدّ المتفائلين يتوقّع أن تولد الحكومة بنتيجة لقاء بعبدا الأخير، الذي جمع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، والذي قدّم فيه الأخير تشكيلته "الجاهزة"، التي أكثرت أوساطه من الحديث عنها منذ نحو أسبوعيْن.

كان غالب الظنّ أنّ مثل هذه الخطوة، التي "تردّد" الحريري بالإقدام عليها بانتظار "لحظةٍ مناسبة" لم تَحِن، هدفت عملياً إلى "رمي الكرة" في ملعب رئيس الجمهورية، لوضع حدّ للاتهامات التي طاولته بالعرقلة تارةً، والرهان على الخارج تارةً أخرى، و"الاعتكاف" ولو بصورةٍ غير مُعلَنة بينهما.

إلا أنّ ما لم يتوقّعه المتفائلون ولا المتشائمون أن "يتصدّى" رئيس الجمهورية سريعاً لـ "نوايا" الحريري، فيردّ "هجومه" بـ "هجمةٍ مرتدّة"، عبر تقديم طرحٍ آخر، حرصت أوساطه على وصفه بـ "المتكامل"، معيداً بذلك الكرة من جديد إلى بيت الوسط، عبر الدعوة إلى درس "الفروقات" بين الطرحيْن للعمل بموجبها.

وبين طرحي عون والحريري، ثمّة علامات استفهام تُطرَح، فهل يكون "التقريب" بينهما سهلاً، وتولَد الحكومة، أم أنّ الأخيرة باتت في "خبر كان"، وما يحصل مجرّد "ملهاة" لتقطيع الوقت، كما يبدو كثيرون مقتنعين؟

إيجابيّة... ولكن!

رغم كلّ الأجواء الملتبسة التي أحاطت بلقاء بعبدا، وسبقته وتلته، كان لافتاً أنّ الطرفيْن المعنيَّيْن أصرّا على وضعه في الإطار "الإيجابيّ"، انطلاقاً ربما من أنّ "تحريك" الملفّ الحكوميّ بحدّ ذاته يُعَدّ أمراً إيجابيّاً، مقارنةً مع "الجمود" التام الذي سيطر عليه على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، أقفِلت خلالها طريق بيت الوسط-بعبدا بالكامل، ولم يُسجَّل أيّ لقاء بين عون والحريري، ولو من باب "رفع العتب" ليس إلا.

ومن ضمن الإيجابيّات، يُسجَّل أنّ اللقاء الذي أفرز طرحيْن متكامليْن، بدل الطرح الواحد، شكّل أول "تقدُّمٍ" من نوعه يُحرَز عمليّاً منذ تكليف الحريري ​تشكيل الحكومة​، باعتبار أنّه نقل النقاش من المبادئ العامة، إلى التفاصيل، استناداً إلى توزيعٍ واضحٍ ومحدَّد للحقائب والحصص، قد لا يكون قابلاً للحياة، إلا أنّه يمكن أن يشكّل أساساً يُبنى عليه في النقاشات التي ينبغي أن تحصل، إذا ما توافرت الإرادة السياسيّة لذلك.

إلا أنّ هذه الإيجابيّة تبقى "منقوصة"، للكثير من الاعتبارات والأسباب، أولها أنّ لقاء بعبدا انتهى على "وعدٍ" بلقاءٍ "قريب"، تُرِك موعده "معلَّقاً"، ما أوحى بإمكان العودة إلى "القطيعة"، وبالتالي "الاعتكاف"، من جديد، في حال أتى ردّ عون على طرح الحريري "سلبيّاً" مثلاً، علماً أنّه كان بالإمكان التوافق على "مهلةٍ" محدَّدة تُدرَس خلالها الخيارات المطروحة ليُبَتّ بالأمور العالقة، بدل ترك هذه المهلة "مفتوحة" إلى ما شاء الله، كما حصل.

أما ثاني الاعتبارات، وهو الذي يرجّحه كثيرون، أن يكون كلّ ما حصل مجرّد "شكليّات"، لا تعكس توافر أيّ إرادة بالتشكيل، بقدر ما تعكس محاولة "استباق" زيارة الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ المرتقبة خلال أيام إلى لبنان، عبر "الإيحاء" بأنّ هناك جهوداً تُبذَل تجنّباً لأيّ "إهاناتٍ" جديدة، إضافة إلى "تقاذف" كرة المسؤولية، كالعادة، حيث يحاول كلّ فريق أن يقول إنّه قام بأقصى ما يستطيع، إلا أنّ الطرف الآخر لم يتجاوب معه.

مراوحة... أو نعي؟

وبين الإيجابيّة والسلبيّة، ثمّة من ينظر إلى الأمور من زاويةٍ مختلفةٍ، ليعتبر أنّ ما حصل هذا الأسبوع، على خطّ الحكومة، لا يُعَدّ خرقاً حتى من حيث الشكل، باعتبار أنّ الأمور لا تزال تراوح مكانها، والخلافات لا تزال على حالها، بمُعزَلٍ عن كلّ ما يُسرَّب عن عمدٍ من هنا أو هنالك، بل إنّ ثمّة من يذهب في "تشاؤمه" إلى حدّ الاعتقاد أنّه قد يحمل في مكانٍ ما "نعياً" لكلّ جهود التشكيل، التي لم تبلغ حتى الآن أيّ مستوى من الجدية.

ولعلّ التوصيف الذي أطلقه كثيرون على تشكيلة الحريري، بأنّها "محاولة لفرض أمر واقع"، يندرج في هذه الخانة، فهناك من يرى أنّ الخطوة تعبّر عن "سلبيّة مطلقة"، خصوصاً أنّ الحريري لم يسعَ فقط من خلالها إلى رمي كرة المسؤولية على غيره، وإنما تعمّد إسقاط "رغباته الشخصية" عليها، من دون أيّ اعتبارٍ لملاحظات وتحفّظات رئيس الجمهورية، التي كان يكرّرها على مسامعه في كلّ اللقاءات، رغم اعترافه بأنّ الأخير "شريكٌ دستوريّ" له في التأليف.

ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ الحريري "التفّ" على تهمة "ازدواجية المعايير" التي كان الرئيس عون، ومن خلفه الوزير ​جبران باسيل​، يوجّهانها له، عبر "تعقيد" المسألة أكثر، لتتوسّع مشكلته لتشمل، إلى المسيحيين، الشيعة والدروز، الذين تصاعدت بعض الأصوات المعترضة على "التهميش" من بيئتهم، علماً أنّ كلّ التسريبات أشارت إلى أنّ الحريري سمّى معظم الوزراء بنفسه، الأمر الذي أعلنت الكتل رفضها له، وإن "تعمّد" ألا يكونوا من "المستفزّين" لأيّ طرف.

واستناداً إلى ذلك، يقول "غير المتشائمين" إنّ تصرّف الحريري عكس "مراوحة" الأمور الحكوميّة مكانها، فالرجل نفّذ ما يتمسّك به منذ اليوم الأول، فلم يمنح أيّ طرف الثلث المعطّل، وسمّى الوزراء بنفسه، كما يرغب، من الاختصاصيّين وغير الحزبيّين، ووزّع الحقائب أيضاً وفق مزاجه، وهو إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الأمور لا تزال مقفلة، طالما أنّ كلّ المؤشرات لا توحي بأيّ "تنازلٍ" يمكن أن يقدّمه رئيس الجمهورية على هذا الخط، وهو ما دفعه أصلاً لتقديم طرحٍ مقابل، على طريقة "الأمن الاستباقي".

غثيان وأكثر!

لا يستطيع أيّ متابع للشأن الحكوميّ أن لا يشعر بالقرف، وهو يستمع لبعض المصطلحات، المسيطرة على النقاشات الجارية منذ أشهر، من ​المحاصصة​ التي لا يريد أحد أن يحيد عنها، إلى الأمر الواقع الذي أعادت تشكيلة الحريري النقاش بأهليّته، مروراً بالحصص السنّية والشيعية والدرزية والمسيحية وغيرها.

ولا تخرج عن هذه القاعدة، بعض العبارات-المفتاحيّة التي تستخدمها بعض الكتل، لتكريس "حقّها" في تسمية الوزراء، كأن يقول البعض إنّه "ممثّل الطائفة"، أو أن يستنكر آخر "كيف يسمّي رئيس الوزراء السنّي الوزراء الشيعية أو المسيحيّين"، أو يحاول رئيس الحكومة أن "يحتكر" التسميات، وكأنّه يستطيع أن يحكم بمفرده.

أن تستمرّ الطبقة السياسية بهذا المنطق "الأعوج" رغم كلّ ما مرّ على البلد طيلة العام الماضي، لأمرٌ لم يعد يثير الدهشة والاستغراب فحسب، وإنما "الغثيان"، فالثورة لم تُشعِر هؤلاء بضرورة التغيير، والانهيار المالي لم يوقظ فيهم حسّ المروءة، وانفجار المرفأ المشؤوم، على خطورته، لم يعدّل في أولوياتهم واهتماماتهم.

باختصار، لا أمل يُرتجى من حكومةٍ تؤلَّف وفق هذه العناوين والقواعد، حتى لو تحقّقت "المعجزة" وشُكّلت اليوم قبل الغد، فكيف بالحريّ إذا كانت تحمل عنواناً بحجم "الإنقاذ"!.