بات واضحاً أن لا حلول متوقعة في المدى المنظور، وأنّ لبنان يسلك طريق الاهتراء الكامل اقتصادياً ومالياً وسياسياً وإدارياً واجتماعياً، وربما أمنياً. وهذا ما سيؤدي إلى سقوط كل مقومات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، فإما أن تتبخَّر كلياً وإما أن تقع في أيدي قوى الأمر الواقع الموجودة حالياً أو تلك التي ستنشأ. وأصبح ممكناً التساؤل: أي مصير سيتجّه إليه لبنان، بعد الاهتراء؟

كل الكلام الذي تَردَّد عن دورٍ لإسرائيل في انفجار المرفأ لا يمكن إثباتُه بالقرائن المتاحة حالياً، وهو يبقى في دائرة الشكوك حتى إشعار آخر. وفي المقابل، كل الكلام الذي يتردَّد عن دورِ الطبقة السياسية في الانفجار، على الأقل من باب الإهمال، ثابتٌ تماماً. ويبقى في دائرة الشكوك، احتمال أن يكون لهذه الطبقة دورٌ معين في التسبُّب في الانفجار، عن سابقِ قصدٍ وتصميم.

لكن غالبية المحللين يعتقدون أنّ إسرائيل هي المستفيد الأول من دمار المرفأ وتكبُّد لبنان خسائر ببضع عشرات من مليارات الدولارات، فوق عشرات المليارات التي يتكبَّدها أساساً بانهياره الاقتصادي والمالي والنقدي، ما يجعله عاجزاً أمامها، سواء في مفاوضات الناقورة أو في أي مفاوضات لاحقة أو في المنافسة الاقتصادية.

وهذا الأمر يعترف به إسرائيليون أيضاً. فقد كان لافتاً نشر تقارير وتحقيقات في الصحافة الإسرائيلية تؤكّد أنّ تدمير مرفأ بيروت، والعجز عن إعادة بنائه في المدى المنظور، يصبّان مباشرة في مصلحة مرفأ حيفا. فبيروت وحيفا تتنافسان: مَن يكون بوابة الشرق العربي على أوروبا؟

تاريخياً، كانت الحركة أكثر نشاطاً في حيفا. ولكن، بعد نشوء إسرائيل، انفتح العرب على العالم من بوابة بيروت فقط. فاستفاد اللبنانيون من هذه الميزة لتنمية ازدهارهم على مدى عقود.

اليوم حصل ما لم تتحسَّب له الطبقة السياسية الفاسدة والقصيرة النظر. ففي ظلّ الحصار الخليجي، وعلى مشارف الانهيار اللبناني الكامل، دُمِّر المرفأ. وفي هذه اللحظة، انطلق مسار التطبيع على مداه بين إسرائيل والخليج العربي. وعلى الأرجح، هو يتطوَّر تدريجاً، ويتخذ أبعاداً جادّة جداً على مستويات التعاون الاقتصادي والعلمي والسياسي.

لكن الأبرز، هو أنّ إسرائيل ماضية في ورشة طموحة جداً لتوسيع مرفأ حيفا، بتمويل صيني، مع ترتيب شبكة مواصلات تربطه بخليج إيلات، أي ببوابة الخليج العربي. وفي أسابيع قليلة، وصلت أولى البواخر الخليجية إلى حيفا.

إذاً، بمعزل عمّا إذا كان الإسرائيليون ضالعين في «الانتقام» من منافسهم، مرفأ بيروت، فإنّهم اليوم مرتاحون إلى تأخير إعادة بنائه إلى موعد غير معروف. وبديهي أيضاً أن يستفيدوا من ضعف لبنان وانهياره لـ«إبراز العضلات» في وجهه، في مفاوضات الناقورة. وهم يتوقعون أيضاً أن يخفّض لبنان سقفه في النهاية، تحت وطأة الانهيار المالي، وبعد تدمير المرفأ.

هذا يستتبع الاستنتاج الآتي: إسرائيل مستفيدة من استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعانيها لبنان، وتالياً من استمرار الحصار الخليجي على لبنان، لأنّ ذلك يعزّز نموّ دورها كوسيط وحلقة وصل بين العرب والأوروبيين والعالم.

وهنا يظهر حجم الجريمة المتمادية التي ارتكبتها الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، على مدى عقود، والتي أدّت إلى انهزامه في معركة مصيرية مقابل إسرائيل. وثمة من يسأل: هل في هذه الطبقة مَن يشارك، قصداً أو بغير قصد، في مؤامرة إضعاف البلد؟

وفي المرحلة المقبلة، سيبدو الدور الإسرائيلي أكثر حساسية، بسبب التحوُّلات التي تشهدها المنطقة، ونتيجة عمليات التطبيع والنزاع الدائر بين المحاور الإقليمية والدولية. وسيكون على لبنان أن يواجه التحدّي الإسرائيلي من زواياه كلها: المفاوضات والاقتصاد والأمن وسوى ذلك كثير.

ولا داعي لتعداد الأساليب التي يمكن أن يعتمدها الإسرائيليون للاصطياد في المستنقع اللبناني، لأنّها معروفة، وقد اختبرها لبنان عبر سنوات طويلة وكلّفته الكثير.

هل سيواجه لبنان هذا التحدّي، وكيف؟

إذا كان لبنان ذاهباً إلى «التحلُّل» الذي لطالما حذَّر منه وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، أي «جهنَّم» التي تحدث عنها الرئيس ميشال عون، وإذا كانت ركائز الدولة ستنهار تماماً وربما تتشرذم، فعلى الأرجح ستظهر ملامح جديدة للبنان.

في هذه الحال، قد تدخل إسرائيل على الخطّ، بطرق مختلفة، للاستفادة من ضعف لبنان، فتفرض عليه الخيارات بما يناسب مصالحها. فهل يجد الإسرائيليون مصلحة في التشجيع على الحدّ الأدنى من استقرار لبنان، أم في التشجيع على إغراقه في الأزمات والزلازل، بما في ذلك الحروب والفتن الداخلية؟

ثمة من يعتقد أنّ المطلوب من لبنان، في المشروع الشرق الأوسطي الكبير، أن يبقى مِعبراً على الساحل الشرقي للمتوسط، من تركيا إلى سوريا فإسرائيل. ووجود هذا المعبر يفترض وجود حدّ أدنى من الاستقرار اللبناني.

ولكن أيضاً، ربما كثيرون في الشرق الأوسط يفضِّلون إغراق لبنان في أزمات لا تنتهي ليرثوا دوره وموقعه. وهؤلاء قد يشجعون انهيار الدولة فيه، أو حتى الصيغة.

وفي أي حال، سيخرج لبنانٌ جديدٌ من الركام، بعد مدّة غير محدّدة. ولكن، سيكون على اللبنانيين أنفسهم أن يقرِّروا إذا كانوا يريدون مِسخاً أو كائناً قابلاً للحياة.