يوماً بعد آخر تزداد الهوّة بين الطبقة السّياسية والشعب ال​لبنان​ي، حيث بات من الواضح أنّ كُلًّا منهما يعيش في مكان مختلف عن الثاني: الإهتمامات والهموم والمصالح لا تقترب من بعضها البعض، بل على العكس من ذلك تتناقض إلى حد بعيد، لدرجة بات من الممكن أن الأولى لا تعيش إلا على جثة الثاني.

الأزمات التي تثقل كاهل المواطن اللبناني معروفة ولا تحتاج إلى الكثير من البحث، عنوانها الأساسي الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة، لكن في المقابل الردّ عليها من جانب القوى السّياسية الفاعلة كان على طريقة إفتعال خلافات لا تغني عن جوع، لا بل على العكس قد تؤدّي إلى تأزيم الأوضاع أكثر.

فجأة تحول الواقع، الذي شبّهه ​وزير الخارجية​ الفرنسي ​جان إيف لودريان​ ب​سفينة​ "التايتانيك" التي تغرق لكن دون موسيقى، إلى صراع على الصلاحيات والتوازنات الطائفية، على وقع التحذير من عمليات إغتيال أو إقتتال داخلي، بالتزامن مع ذهاب بعض الأحزاب والتّيارات إلى إستخدام الشوارع المتقابلة، لتسجيل الأهداف في مرمى بعضها البعض.

هنا تكمن المشكلة الرئيسيّة، حيث لا تزال تلك الأحزاب والتّيارات تجد من هو على استعداد ليكون وقوداً لصراعاتها التي لا تخدم إلا مصالحها الخاصة، منتظراً "الأوامر" كي ينقضّ على مواطن آخر، يعاني ما يعانيه هو أيضاً من ظروف صعبة، تحت عناوين مذهبيّة وطائفيّة، من أجل "زعيم" لم يعرف يوماً ما يعانيه من مصاعب، حيث يعده بـ"الإعاشة" المذلّة التي تمنعه من الموت جوعاً، بدل أن يسعى لتحسين ظروف معيشته بكرامة.

بعيداً عن نظريات المؤامرة والإستهداف، هناك بعض الحقائق التي ينبغي أن تتوضح كي يكون الجميع على بيّنة ممّا يحصل على أرض الواقع، أولّها أن ليس هناك من "مافيا" في لبنان ليست مغطّاة من قبل فريق سياسي معيّن أو أكثر، من المولّدات الخاصّة إلى الأفران إلى مستوردي السلع الغذائيّة و​المحروقات​ و​الأدوية​، وصولاً إلى عصابات سرقة السّيارات أو تجّار المخدّرات أو عصابات الخطف مقابل فدية ماليّة، أو زعران الشوارع الذين يتسبّبون بسقوط ​ضحايا​ أبرياء برصاصهم الطائش أو غير الطائش.

بالتزامن، منذ ما يقارب العام تعاني غالبيّة اللبنانيين من الإجراءات المعتمدة من قبل ​المصارف​ الخاصّة، وصلت في الأيّام الماضية إلى تحديد سقف لسحوباتهم ب​الليرة​ بعد أن حجزت ودائعهم الّتي ب​الدولار​، من دون أن تتحرّك أي جهّة رسميّة، من تلك الّتي تمثّل الأحزاب والتّيارات السّياسية، للقيام بأيّ إجراء حاسم على هذا الصعيد، باستثناء الخطابات الشعوبيّة التي ترمي الإتّهامات على الآخرين، لكن الأكيد أن تلك المصارف لم تكن لتقدم على أيّ خطوة من هذا النوع لو لم تكن تحظى بالتغطية اللازمة من قبل القوى السّياسية.

في هذا الإطار، يكون من الضروري دعوة مناصري الأحزاب، الراغبين في ​تحقيق​ مطالبهم دون أن يُسْتَخدموا في صراعات لا علاقة لهم بها، إلى أن يتظاهروا أمام منازل "زعمائهم"، لأنّهم في هذه الحالة سيحصلون على نتائج بسرعة أكبر مما يتخيّلون، وفي هذه الحالة يكونون "يدقّون" الأبواب الصحيحة التي ترعى وتحمي كل ما يتعرّضون له من عمليّات سرقة وإستغلال بدل أن يكون دورهم تحسين شروط "زعيمهم" في المفاوضات التي يخوضها لرفع نسبته من "المغانم" التي باتت في نهايتها.

في المحصّلة، قد تكون الصورة الأوضح لنظرة هؤلاء "الزعماء" إلى أنصارهم تكمن بأنّهم، رغم كل المصائب التي وقعت، لا يخشون خروجهم عليهم، بل يرتعبون من مجرّد تسريبات إعلاميّة عن إحتمال فرض ​عقوبات​ أميركيّة أو أوروبيّة تطالهم، بغضّ النظر عن إستخدامها أداة سيّاسية في معظم الأحيان، فالمحاسبة التي يهابونها هي في الخارج، لا في الداخل الذين يسيطرون عليه بالمعارك الوهميّة، طالما أن هناك من لا يزال يصدّق بأنّ المسؤول عن الإنهيار قادر على الإنقاذ.