كان الانتظارُ طَويلًا ولكن بِالمُقابل كان المَجيءُ كَبيرًا. شُعوبٌ انتظَرتْ مَجيئَهُ ونُبوءاتٌ كثيرةٌ تَكَلَّمت عَليه. مَن كان يَلهَجُ بِهِ تَهلَّل، ومَن فتحَ قلبَهُ سَبَّح، ومَن كان حَائِرًا بَدأ يَتساءَلُ، ومَن كان مُتَكَبِّرًا ارتَعَب.

الكلمةُ صارَ جَسَدًا، ودخلَ اللهُ عالَمَنا كإنسانٍ مِثلَنا. دُخولُه غَيَّرَ كُلَّ معالمِ الكون. تَزيَّنَتْ دُنيانا بِهِ، ومَا زينَةُ مَنازِلِنا إلّا تَرجمةٌ للفَرَحِ السَّماويِّ الّذي غَمرَ قُلوبَنا.

تَجسُّدُهُ أعطى لِكَثيرٍ مِن المَفاهيمِ مَعنَاها الكامِل، ومَن يَقرأُ عَن الجَماعَاتِ المَسيحيَّةِ الأُولى الّتي تَكوّنت مِن يَهودٍ ووثَنِيّينَ مِن كُلِّ أرجاءِ المَسكُونَةِ يَعي التَّغييرَ الجَذريَّ الّذي حصل.

اليَهودُ الّذين كان عِندَهم الشَّريعةُ وأقوالُ الأنبياءِ خَاطبَهُم مَتّى مُفتَتِحًا إنجيلَهُ بِهَذِهِ الآيةِ: "كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ(١:١)، والتّفسيرُ أنَّ المسيحَ الذي كانوا يَنتظِرُونَهُ أصبحَ هُنا في وسَطِهِم، ومَا عَليهم إلّا أن يُعِيدُوا قِراءَةَ الكُتُبِ على ضَوءِ هذا المَجيءِ الإلهيِّ، ليَسقُطَ البُرقُعُ عن وُجوهِهِم، تَمامًا كما فعلَ بولسُ الرَّسول الّذي كان شَاوُل.

الوثنيّونَ الّذين امتلأَتْ ثَقافتُهم وتَمحوَرَتْ عِباداتُهم حَولَ آلِهَةٍ لا تُحصَى، أتى مُرتَجاهُم.

أقوالُ الفَلاسِفَةِ وأبحاثُهُم وَصَلت إلى خِتامِها بِمِيلادِ المُخَلِّصِ المُنتَظَر.

الكتبُ الّتي تَعرِضُ حياةَ القُرونِ الثَّلاثَةِ الأُولى بَعدَ المَسيح، تُؤَكِّدُ أنَّ الحَدَثَ المِيلادِيَّ لم يَكُنْ حَدَثًا عَادِيًّا بل إيضَاحًا كامِلًا للرُّمُوزِ الّتي كانَت سَائدةً آنَذَاك، والّتي كانت تُعَبِّرُ عن قَلَقِ الإنسانِ حَولَ الحَياةِ بَعدَ المَوت، وعن بَحثِهِ الدَّؤوبِ لِيكونَ مُحتَضَنًا مِن قِبَلِ الآلهة.

يَكتبُ "فردريك تريستان" أستاذ التَّصاوير التي تعود إلى ما قَبلَ المَسيحِ، في مَعهدِ الأبحاثِ الفَنّيَّةِ – ​باريس​، في كِتابِهِ "التَّصاويرُ المَسيحيَّةُ الأُولى مِنَ الرُّموزِ إلى الأَيقُونَةِ"، أن بِدُخُولِ الرَّبِّ عالَمنا أصبحَ يَسوعُ مِحورَ الاهتِمامِ الرَّئيسِي.

فيَذكُرُ مَثلًا أنَّ الرُّومانَ كَانُوا يُقدِّمُونَ مَوتَاهُم لِلآلِهَة Mânes (أَرواحَ المَوتَى الطَيِّبَة)، وكانُوا يَنقُشُونَ أحرُفَ DM أو DMS على نَواوِيسِهم، وهَذِهِ الأَحرفُ تَعنِي Dis Manibus Sacrum، بِما مَعنَاهُ، أنَّ المَيتَ مُقدَّمٌ لِهَذِهِ الآلِهَةِ المُقدَّسة، الّتي بِطِيبَتِها سَترأفُ بِهِ وتُعطي السَّلامَ لِرُوحِهِ وتَرعَاهُ وتَهتَمُّ بِه.

ولكن سُرعَانَ ما قَامَ المَسيحِيُّونَ أَنفُسُهُمُ بِنَقشِ الحَرفَين DM على أَضرِحَتِهم بعد أن "لَوهَتُوا" المَعنَى فَأصبحت تَعنِي Deo Magno أي "الإله العظيم".

والجَديرُ بِالمُلاحَظَةِ أنَّ كثيرًا مِنَ الوَثنِيّينَ تَبنَّوا هذا الأمرَ أيضًا.

كما نقشَ المَسيحيّونَ بِجانِبِ الحَرفَين DM سَمَكةً وخَتمَ المَسيحِ، أي الحَرفَين الأوَّلَين من اسمِ المَسيح Χριστός CHRIST.

فالسَّمكةُ الّتي كانت تَرمُزُ قَديمًا عِندَ الوَثنِيّينَ لِلخُصُوبة والحياةِ ارتِباطًا بِرَحِمِ المرأةِ وأحشائها، تَحوَّلَت أيضًا لرَمزِ المَسيح، وقد جَعَلَ المَسيحيّونَ أَحرُفَ اسمِها بِاللغَةِ اليُونانِيّةِ ΙΧΘΥΣ تَعنِي يَسوعَ المَسيحَ ابنَ اللهِ المُخَلِّص Ιησους Χριστος Θεου Υιος Σωτηρ.

كما نلاحظ اسم ZWNTWN والتي تعني الأحياء بجانب كلمة ΙΧΘΥΣ التي هي السمكة ليكون المعنى المقصود يسوع المسيح ابن الله مخلّص الأحياء.​​​​​​​ وهُناكَ أمثِلَةٌ كَثيرةٌ غيرُها. كُلُّ ذلكَ لِيُشيرَ إلى أنَّه مِن المُستَحيلِ أن يَدخُلَ المَسيحُ إنسانًا ولا يُصبِحَ خَليقةً جَديدة، فهل نَتخَلَّى اليومَ عن مُخلِّصِنا لِنعودَ إلى وَثَنِيَّاتٍ لا تُحصَى ولا تُعَد؟.

لقد أدرَكَ المَسِيحِيُّونَ مُنذُ البِدايةِ أنَّ كُلَّ الأحداثِ الخَلاصِيَّةِ مُترابِطَةٌ وهي فِي العُمقِ واحِدَة.

فالمَسيحُ الّذي وُلِدَ هو نفسُهُ الّذي سيُصلَبُ ويَموتُ ويُقِيمُنا مَعَه، لِذا نَجدُ تَرتيلَتَي "اليومَ يُولَدُ مِنَ البتول" و "اليومَ عُلِّقَ على خَشَبة" على اللّحنِ نفسِه.

كذلك نرى في أيقونةِ القَبرِ الفَارِغ -بعد القيامة- الأقمطةَ الّتي لفَّتِ العَذراءُ بِها يَسوعَ عِندَ الوِلادة.

هذا هُوَ إيمانُنا، فمِيلادُنا هُوَ صَليبُنا وقيامَتُنا فحَياةٌ أَبديَّة.

فقد ناشَدَ القِدّيسُ يُوستِينُوس الشَّهيد (+١٦٥م) في دِفاعِهِ عن المَسيحيَّةِ العَالَمَ قائلًا: "أُنظرُوا كُلَّ ما هو مَوجودٌ في العَالم، وأعرَفُوا جَيّدًا أنَّه مِن دُونِ الصَّليبِ لا يُمكِنُ لِلعالَمِ أن يكونَ مُنتَظِمًا، ولا يُمكِنُ أن يَكونَ هناك تَواصلٌ في أَرجَائِه. ولا نَستطيعُ صَدَّ الرِّياحِ المُضادّةِ الّتي تُعاكِسُنا إن لم يَكُنْ شِراعُنا كامِلًا، أي الصَّليبُ الّذي هُوَ جَائِزَتُنا المُقَدَّسة".

ويُكمِلُ شارِحًا: "مِن دُونِ الصَّليبِ لا يُمكِنُنا حِراثَةُ الحُقول". وأَوَّلُ حَقلٍ عَلينا حِراثَتُهُ ليُعطِيَ ثِمارًا جَيِّدةً مِن جَديدٍ هُو "نحن".

نحن سَقَطنا وأتَى الرَّبُّ إلَينا لِيُعيدَنا إليه. هذا هُوَ المِيلادُ، أن يَحرُثَ الإنجيلُ حَياتَنا فتُثمِر.

فإذا المَسيحيُّونَ الأوائلُ قَدَّمُوا أمواتَهم لِلإلهِ العَظيمِ حَارِثِ النُّفوسِ ومُنَقِّيها لِتَعبُرَ طَاهِرَةً زَرعًا جَدِيدًا، ووِلادَة ً جَديدةً في السَّماء، فَكم بِالأحرى نَحنُ الّذينَ في الجَسدِ بَعد؟.

​​​​​​​

وإذا إشعياءُ النَّبيُّ (القَرن السّابع قَبلَ المِيلادِ) نَقلَ لَنا آيةً مِنَ اللهِ عَن وِلادَةِ المَسيحِ مَفادُها: "وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»". -أي الله معنا-(١٤:٧)، فلِكَي يُكمِلَ بِلِسانِ الرَّب مُخاطِبًا أُورَشليمَ السَّماوِيَّة: "وَشَعْبُكِ كُلُّهُمْ أَبْرَارٌ. إِلَى الأَبَدِ يَرِثُونَ الأَرْضَ، غُصْنُ غَرْسِي عَمَلُ يَدَيَّ لأَتَمَجَّدَ"(٢١:٦٠).

هذا يَكونُ لأَنَّ الرَّبَّ دَعا المَدينَةَ نفسَها قَائِلًا: «قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ"(إشعياء ١:٦٠).

ميلادًا مَجيدًا.

​​​​​​​