في المبدأ، يريد رئيس ​الحكومة​ المكلَّف ​سعد الحريري​ تشكيل حكومةٍ بمهمّةٍ "إنقاذيّة" محدّدة، ومدّة صلاحيّة "محدودة" لا تتجاوز بضعة أشهر، تكون كفيلة بتجاوز "الانهيار القاسي" الذي تعيشه البلاد حالياً، والعبور إلى برّ الأمان، بعد تنفيذ الإصلاحات المُتوافَق عليها، التي يفرضها ​المجتمع الدولي​ شرطاً لأيّ دعمٍ أو مساندة.

لهذه الأسباب، يصرّ الحريري، منذ ما قبل تكليفه، على دعوة الأحزاب والقوى السياسية النافذة إلى "التنحّي جانباً" والسماح له بتشكيل حكومة "أخصائيّين غير حزبيّين" تحظى بثقة اللبنانيين و"رُعاتهم" الخارجيّين، وفق منطق أنّ "انكفاءهم" لأشهرٍ قليلة ليس "نهاية ​العالم​"، طالما أنّهم "عائدون" عاجلاً أم آجلاً، شاء من شاء وأبى من أبى.

يقول البعض إنّ الأمر لو كان بهذه البساطة، لما شكّل أيّ "عقدة"، ولكانت الحكومة تألّفت في ساعات، بمباركة القوى السياسيّة، المعطّلة والمعرقلة، قبل المسهّلة والميسّرة، إلا أنّ "ما خفي" يبقى "أعظم"، لناحية "السيناريوهات" المرسومة للحكومة، التي يشبّهها البعض بحكومة ​تمام سلام​ في العام 2013، التي حكمت البلاد إثر ​الفراغ الرئاسي​ في العام التالي!.

سيناريو واقعيّ

في المبدأ أيضاً، ومن حيث "الواقع القانونيّ"، لا يبدو هذا السيناريو "مرجَّحاً"، فالحكومة التي تُشكَّل اليوم ستصبح بحكم المستقيلة بمجرّد إجراء ​الانتخابات النيابية​، إن لم تستقل قبل ذلك من تلقاء نفسها، علماً أنّ "ولاية" البرلمان الحالي تنتهي في أيار 2022، أي قبل انتهاء ولاية ​رئيس الجمهورية​، ما يفرض إنجاز الاستحقاق النيابي قبل هذا الموعد.

أكثر من ذلك، هناك في الأوساط السياسيّة من يطالب في الليل و​النهار​ بانتخاباتٍ نيابيّة مُبكِرة، تسبق موعدها القانونيّ، بمُعزَلٍ عن القانون الذي ستجرى على أساسه، ما يعني عدم وجود أيّ "نوايا مُعلَنة" للتمديد للبرلمان الحاليّ، الذي ضعُف دوره أصلاً بعدما غيّبت قوى معارضة رئيسيّة نفسها عنه، وافتقد لجزءٍ كبيرٍ من "هيبته".

قد يكون كلّ ما سبق صحيحاً، لكنّ التجربة اللبنانيّة أثبتت أنّ "المنطق" شيء، و"الواقع" هو نقيضه تماماً، فحينما أقِرّ ​التمديد​ مثلاً للبرلمان مرّتين سابقاً، كان محضّرو قانون التمديد يُنكِرون أيّ اتجاهٍ من هذا النوع، كلّما سرت "إشاعة" في البلد، قبل أن يأتي الوقت المناسب، فيقرّوه بالإجماع، ويتلطّوا خلف "ظروفٍ قاهرة" لا تُقارَن بالظروف التي يعيشها ​اللبنانيون​ اليوم.

ولعلّ الحديث عن "التمديد" الذي تتداوله الكثير من الكواليس السياسية، يتمتع بـ "صدقية" واسعة، علماً أنّ "مقتضياته" أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، بل قد تكون أكثر إقناعاً من تلك التي اعتُمِدت سابقاً، من الظروف الاقتصادية المأساوية التي يستبعد أقصى المتفائلين أيّ "انفراجٍ" على خطّها خلال عاميْن، فضلاً عن تلك الصحية والاجتماعية الخطيرة، والسياسية الأخطر.

من هنا، يصبح ما يُحكى عن أنّ المجلس النيابيّ الحاليّ هو الذي سينتخب رئيس الجمهورية المقبل أكثر من "واقعي"، بعيداً عن النصوص القانونية والدستورية التي لم تقف يوماً حجر عثرة أمام "مخطّطات" السياسيّين، وتصبح الإشاعات عن أنّ الحكومة الحاليّة باقيةٌ حتى نهاية "العهد"، بل إلى ما بعده، حقيقة شبه مثبتة، لا تنتظر سوى "الترجمة".

بيت القصيد

لعلّ مقاربة ​الأزمة​ الحكوميّة المتفاقمة اليوم، استناداً إلى هذه الخلفيّة، وانطلاقاً من قراءة تبعاتها على الواقع العام للبلاد، تساعد في "فكفكة" الكثير من الرسائل "المشفّرة" خلف التعنّت والتصلّب والتشبّث والعناد وغيرها من الصفات المسيطرة على اللاعبين الحكوميّين، والتي تدفعهم لرفض تقديم أيّ "تنازلات" تحت أيّ ظرفٍ من الظروف.

يقول العارفون إنّ الخوف من "الفراغ" شبه المحتّم هو "بيت القصيد" في المسألة برمّتها، استناداً إلى تجربة 2013، فرئيس الجمهورية ​ميشال عون​ الذي سبق أن قال إنّه يسعى لـ"خلافةٍ جيّدة" ترث الرئاسة من بعده، بات مقتنعاً بأنّ انتخاب "الخلف" قد لا يكون ميسَّراً، وأنّ "الفيتو" تحديداً على مرشحه المفضَّل للمنصب، الوزير السابق ​جبران باسيل​، مبتوتٌ سلفاً.

وإذا كان عون، ومن خلفه باسيل، يرفضان أن تؤول الرئاسة إلى أحد "الخصوم"، وقد لا يمانعان في تكرار تجربة "الفراغ" عبر تعطيل جلسات انتخاب الرئيس، إن لم تُقرَن بتوافقٍ مُسبَق، فإنّهما يريدان "التعويض" من خلال حكومةٍ يحظيان فيها بـ"حصّة الأسد"، عبر "الثلث الضامن" تحديداً، خصوصاً أنّ صلاحيات الرئيس تنتقل، في حال الفراغ، إلى "​مجلس الوزراء​ مجتمعاً"، ما يتطلب حكومةً "متوازنة"، تمنع أيّ "تفرّد" من شأنه فتح "حرب صلاحيّات" جديدة.

ومع أنّ الحريري يؤكد في المقابل، أنّ حكومته لن تخدم أكثر من أشهرٍ معدودة، يعتقد كثيرون بأنّه يضع هذه الاعتبارات في حساباته، بل يوليها الأولوية القصوى، خصوصاً بعدما ثبُتَ أنّ "الثلث المعطّل"، كما يصفه، هو "عُقدة العُقَد"، وهو ما أشار إليه بوضوح أصلاً بيان مكتبه الإعلامي هذا الأسبوع، وهو لا يريد أن يكرّر "تجربة" تمّام سلام في 2013، ولا "تجربته" هو يوم أسقِط بضربة "الثلث" القاضية، خلال زيارته الرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​.

لا ثقة!

لا يبالغ بعض اللبنانيين حين يقولون إنّ السياسيّين يعملون بعكس ما يقولون، وإنهم إذا قالوا إنّهم لن يفكّروا بالقيام بأمرٍ ما، فهذا يعني أنّهم باشروا بالإعداد والتحضير له، بل يضعون اللمسات النهائية له.

ربما، يعكس هذا الأمر غياب "الثقة" بالطبقة الحاكمة التي وعدت بالكثير ولم تَفِ بشيء، والتي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، والتي لم يعد أركانها أصلاً "يثقون" ببعضهم بعضاً، حتى الحلفاء منهم.

لذلك، يبدو كلّ سيناريو "التمديد" للبرلمان، و"الفراغ" الرئاسيّ، و"التطبيع" مع مرحلته، واقعيّاً بشدّة، ولو أنّ البعض يقول إنّ أحداً لا يمكنه "التكهّن" من اليوم بما يمكن أن يحصل خلال العاميْن الفاصليْن عن الاستحقاقات المذكورة.

قد يكون ذلك صحيحاً في مكانٍ ما، بدليل "انقلابات" هذا العام الدراماتيكية المفاجئة والمتسارعة، ولكنّ القول إنّ هذه الأمور "سابقة لأوانها"، مردودٌ، لأنّ كلّ ما يحصل في البلد اليوم مرتبطٌ بها، مباشرةً أو مواربةً، سواء اعترف المعنيّون أم أنكروا...