بعيداً عن "حرب البيانات" النارية التي شهدتها الساحة السياسيّة في الأيام الماضية، معطوفةً على "الوساطات" التي يبدو أنّ "خرقها" الوحيد تمثّل في إعادة "تحريك" الملفّ الحكوميّ، ودفع المعنيّين إلى إعادة تشغيل "محرّكاتهم"، بات كثيرون مقتنعين بأنّ ما يحصل ليس أكثر من "تقطيع وقت".

في هذا السياق، ثمّة من المحسوبين على "العهد"، مثلاً، من يجزم بأنّ رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ لا يريد أصلاً تأليف حكومة، لدواعٍ داخليّة وخارجيّة في آنٍ واحد، أقلّه قبل رحيل الإدارة الأميركية الحالية في 20 كانون الثاني المقبل، خشية العقوبات التي يمكن أن تطاله بسبب تمثيل "​حزب الله​".

وهناك من يذهب أبعد من ذلك بالقول إنّ الحريري قد لا يؤلّف الحكومة حتى بعد استلام الرئيس الأميركي المُنتخَب ​جو بايدن​ زمام الأمور، لأنّ "الحصانة" العربية والدولية لم تُمنَح له بعد، خصوصاً في ظلّ ما يُحكى عن عدم "مباركة" السعوديّين وغيرهم لترؤسه للحكومة، ولعدم رغبته في التصدّي لبعض القرارات "غير الشعبيّة".

إزاء ذلك، ثمّة في "العهد" من بدأ يطرح هواجس، قد تكون مبرَّرة ومشروعة، حول كيفية التعامل مع الحريري، إذا ما بقي مصرّاً على معادلة "لا تأليف ولا اعتذار"، طالما أنّ الدستور يسمح له بالبقاء "مكلَّفاً" إلى ما شاء الله، وربما حتى "آخر العهد"!.

"خرق" في الشكل؟

لعلّ السجالات التي شهدتها ساحة الحكومة خلال الأسبوع الماضي تشكّل "خير دليل" على مدى عمق "الأزمة" التي يشهدها الملفّ الحكوميّ، في ظلّ "التخبّط" المهيمن على مختلف خطوطها، وسط "تشبّث" كلّ اللاعبين على خطها، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة المكلَّف بمواقفهما، من دون إظهار أيّ "مرونة"، أو مجرّد "قابليّة" لتقديم أيّ تنازل من شأنه فتح الطريق أمام الولادة الميمونة المُنتظَرة.

ومع أنّ "الوساطات" التي برزت على الخطّ الحكوميّ في عطلة نهاية الأسبوع، سواء المُعلَن عنها، على غرار "مبادرة" البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​، أو "المُضمَر" على غرار حراك المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​، نجحت في "تحريك الجمود" نسبياً على الأقلّ، وسط معلوماتٍ عن لقاء مرتقب في الساعات المقبلة قد يُبنى عليه، إلا أنّ كلّ المؤشّرات توحي أنّ التقدّم المُحرَز شكليّ فقط، وأنّ لا "ترجمة" له على أرض الواقع، أقلّه حتى إثبات العكس.

يقود ذلك إلى "خلاصةٍ" يتّفق عليها المعنيّون بالشأن الحكوميّ، وإن اختلفوا على "تشخيص" المسبّبات، ومفادها بأنّ القرار مُتَّخَذ على أعلى المستويات بأنّ "لا حكومة ولا من يحزنون" في المدى المنظور، رغم كلّ شيء. وتتقاطع هذه الخلاصة مع قناعةٍ راسخة لدى "العونيّين" على وجه التحديد، بأنّ كلّ الخطوات التي اتخذها الحريري في المرحلة الأخيرة، وأوحى من خلالها أنّه "مستعجلٌ" ل​تأليف الحكومة​، كانت شكليّة لرفع العتب ليس إلا.

ويقول هؤلاء إنّ الحريري لو لم يكن "ضامناً" أنّ تشكيلته ستصطدم بـ"فيتو" رئيس الجمهورية، ما كان ليعرضها من الأساس، فهو لم يكن يريد تأليف حكومة، بقدر ما أراد "إزاحة" كرة المسؤولية عن عاتقه، والقول إنّه فعل أقصى ما يستطيع، لكن العرقلة جاءت من الطرف الآخر، وهو ما تندرج زيارته إلى البطريرك الماروني الأسبوع الماضي في سياقه أيضاً، خصوصاً بعد تصريحاتٍ سابقة للراعي حمّل فيها الحريري المسؤولية الكاملة، ودعاه إلى تقديم "تشكيلة كاملة متكاملة"، بدل العمل على التشكيل "بالتقسيط".

"العهد" لن يسكت؟!

كلّ ذلك يقود "​التيار الوطني الحر​" إلى القول إنّ حسابات الحريري الخارجيّة هي التي تقيّده وتكبّله وتمنعه من تأليف الحكومة، ولو كان يتلطّى خلف العُقَد الداخليّة، التي تبدو في جانبٍ كبيرٍ منها، "مُفتعَلة"، خصوصاً عندما يتمّ تحميل مطلبٍ يفترض أن يكون "بديهياً"، وهو "توحيد المعايير"، المسؤولية المُطلَقة بتعطيل ولادة الحكومة، وكأنّه "كفْرٌ".

وتنسحب هذه القناعة على الكثير من المحسوبين على "العهد"، ممّن يقولون صراحةً إنّ الحريري الذي لا يريد أن يؤلّف أحدٌ غيره الحكومة، لا يجرؤ على التأليف اليوم، طالما أنّ الخليجيّين لا يدعمونه صراحةً، وبعضهم "رفع يده" عن لبنان بالكامل، وطالما أنّ الأميركيّين يلوّحون بفرض عقوباتٍ عليه، إذا ما جاءت الحكومة "غير مطابقة" للمواصفات "التعجيزية" التي يطرحونها.

ولكنّ ما يثير امتعاض هؤلاء، هو أن يتمّ تحميل "العهد" المسؤولية الكاملة عن "المماطلة" في تأليف الحكومة، مع أنّ الأخير هو "المتضرّر الأكبر" من العرقلة الحاصلة، خصوصاً أنّ "الرهان" هو على ولادة الحكومة، اليوم قبل الغد، لعلّها تنجح في "تعويض" ما فات، وتحقيق ما يصبو إليه رئيس الجمهورية من "إصلاحات" عجز عن تنفيذها في السنوات الماضية، وبعدما "خاب" رهانه على تفعيل حكومة تصريف الأعمال، أو حتى "استبدالها" ب​المجلس الأعلى للدفاع​.

ولعلّ أكثر ما "يخيف" المحسوبين على "العهد"، في ظلّ هذا الجو المشحون، هو أن يبقى الحريري عمليّاً "رئيس حكومة مكلَّفاً" حتى "ما شاء الله"، وهو خيارٌ يبدو الأرجح حتى الآن، استناداً إلى الدستور، في وقتٍ يبدو المعترضون كمن "لا حول ولا قوة لهم"، علماً أنّ رئيس الجمهورية حاول "استباق" مثل هذه الإشكاليّة يوم وجّه "نداءً" إلى النواب عشية الاستشارات، ويوم طرح تكتّل "​لبنان القوي​" تعديلاً دستورياً يقيّد أيّ رئيس حكومة مكلّف بـ"مدّة صلاحية محدّدة"، وهو خيارٌ ينبغي أن يُطرَح جدّياً على طاولة البحث والنقاش.

"مسّ بالمقدّسات"؟

لعلّ الأزمة الحكوميّة المتفاقمة تشكّل دليلاً آخر على "عقم" النظام القائم، الذي يعاني من "ثغراتٍ" لا تُعَدّ ولا تُحصى. فها هو رئيس الحكومة المكلَّف يستطيع أن "يأسر" البلد بقدر ما يشاء طالما أنّه "يحجز" ورقة "التكليف" بجيبه، فهو يستطيع أن يعتكف، بل يغترب ويهاجر، من دون أن يستطيع أحد "استبداله"، طالما لم "يعتذر" من تلقاء نفسه.

وثمّة من يردّ على هذا "المنطق"، بالحديث عن "ثغرات" أخرى، وهناك من يتهم مثلاً رئيس الجمهورية بلعب الدور نفسه على خطّ التشكيلات القضائية، "المُحتَجَزة" لديه منذ أشهر، بإصراره على عدم التوقيع عليها، كما أنّ هناك من يتّهم رئيس ​مجلس النواب​ أيضاً بـ"المزاجيّة" في فتح أبواب البرلمان أو إقفالها، و"حجز" بعض مشاريع القوانين في جواريره لأشهر وسنوات.

في المبدأ، يفترض أن تكون كلّ هذه "المظاهر الشاذة" شواهد واضحة على أنّ النظام ليس على ما يُرام، وأنّ المطلوب البحث بتعديلاتٍ جذريّة وجوهريّة عليه. إلا أنّ الظروف "الحسّاسة" التي تجعل كلّ بحثٍ بتعديل الدستور "مسّاً بالمقدَّسات"، تفرض "صرف النظر" عن كلّ ما سبق، فيما البلاد على أعتاب "الانهيار الكبير"...