تختارُ الكنيسَةُ الأرثوذكسِيَّةُ في غروبِ عيدِ البِشارةِ نصوصًا مِن العهدِ القديمِ، تُسَلِّطُ الضَّوءَ على ما أَعدَّهُ اللهُ للإِنسانِ منذُ القدمِ، فتَقرَأُ مثلاً، سُلَّمَ يعقوبَ: «وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا»(تكوين ١٢:٢٨).

وجود الملائكة يُشير إلى حدثٍ سماويّ وإلى ​أخبار​ سارة مصدرها إلهيّ.

هذا ما نراه في الأحداثٍ التي ترافق ​الميلاد​، ملائكةً مِن السّماءِ يُبَشِّرونَ الرُّعاةَ، وملاكًا يَتكلَّمُ مَعَ يوسفَ، ونجمًا يَقودُ المَجوسَ.

السّماءُ كُلُّها على الأرضِ، وهذا ما تُعَبِّرُ عنهُ بِحَقٍّ أيقونةُ الميلادِ الإِلهيِّ. فنحن أمام صفحة إلهيّة فُتِحت تَربُطُ السّماءَ بالأرضِ، وهي مستمرّة فَنَعي معها ما قالَهُ الرَّبُّ يسوعُ المسيح: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ»(يوحنا ٥١:١).

الله هنا ولكن هل كلُّ الشُّعوبِ مُستَعِدَّةٌ لِعَيشِ هذا التَّجَسُّدِ الإلهيِّ والدُّخولِ في سِرِّ هذا الخَلاصِ العظيمِ؟.

فلو رَجِعنا إلى الوراءِ لَبَدَأنا مثلاً بالفِكرِ اليونانِيِّ الفَلسَفِيِّ والّذي ما زالَ تَأثيرُهُ واضِحًا وجَلَيًّا في كثيرٍ من المُعتَقَداتِ والحَضاراتِ، بحيث تَتَلَخَّصُ هذهِ الفلسفةُ في وجود إله كَونِيّ غَيرَ شَخصِيّ لا يمكن إدراكه، وهو إلهٌ مُنَزَّهٌ مُتعالٍ، ومُتَرَفِّعٌ عن شَرِّ الإنسانِ ودَنَسِهِ، وهو بالتّالي إلهٌ لا يُشارِكُ ولا يَتَشارَكُ. وإِنِ ارتَفَعَ بعضُ الأشخاصِ لِيَبلُغوا النَّشوَةَ، فهُم في النِّهايةِ يَذوبونَ في دائرةِ الكمالِ والجمالِ، ولا يَعودونَ أشخاصاً قائمينَ بِحَدِّ ذاتِهِم، بل تُمحى كُلُّ خُصوصِيَّةٍ لَهُم.

وقد كَثُرَ التَّهَجُّمُ على الإيمانِ المَسيحيِّ منذُ اللّحظةِ الأولى لِلبِشارةِ، فَوقَفَ الكثيرونَ مِن حُكَماءٍ وقادَةٍ وفلاسفةٍ ومُثَقَّفينَ وجُهّالٍ يَشُنّونَ هُجومًا واسعًا ومُنَظَّمًا، فمنهم مَنِ استَعمَلَ ضِدَّهُم سِلاحَ الحَديدِ والنّارِ ومِنهم مَن استعملَ سِلاحَ اللِّسانِ والكَلِمَةِ، ومِن أَبرز ما قالوه: هل يُمكنُ لِمَن هو في السّماواتِ أن يأتِيَ إلى مَن هو على الأرضِ؟ وإن فَعَلَ، لا شَكَّ في أنَّ التَّغييرَ سيَعتَريهِ، فَيَتَحَوّلُ صَلاحُهُ إلى شَرٍّ وكمالُهُ إلى نقائِصَ لا تُحصى. تغييرٌ كهذا لا يَتَناسَبُ وطبيعةَ اللهِ.

وهذا مَرجِعُهُ أنَّ اليونانيّينَ والوثنيّينَ لم يستطيعوا أن يَقبلوا كيفَ أنَّ اللهَ المُنَزَّهَ عن كلِّ شَرٍّ يستطيعُ أن يَتَّحِدَ بالمادَّةِ السّاقِطَةِ على حسبِ قولِهم ولا يَتَدَنَّسُ.

وتعبيرًا عن رَفضِ التَّجَسُّدِ الإلهيِّ، أكملوا يؤكِّدون: «لوِ افتَرَضنا أنَّ بعضَ اليونانيّينَ كانوا بَليدي الفَهمِ بحيثُ يقولونَ إِنَّ الآلِهةَ تَسكُنُ في التَّماثيلِ، تبقى هذه المَقولَةُ أشرفَ منَ القَولِ إنَّ الألوهِيَّةَ حلَّت في أَحشاءِ امرأَةٍ عذراءَ وأصبحت جنينًا. فيا لهذهِ الأكذوبَةِ الفظيعَةِ».

هذا الكلامُ وإن يَعودُ إلى القرونِ الأولى، فهو لا يعني أنَّهُ لم يَعُدْ موجودًا اليومَ. كثيرٌ منَ النّاسِ في وَقتِنا يرفضونَ التَّجَسُّدَ رفضاً تامًّا، وبالتّالي يُصبِحُ موتُ المسيحِ على الصَّليبِ وقيامَتُهَ بالنّسبةِ إليهم أيضًا مرفوضين.

وهذا طبعًا يَتناقَضُ معَ مفهومِ البِشارةِ المسيحيَّةِ تناقُضًا كامِلًا، فمِن دونِ التَّجَسُّدِ والصَّلبِ والقيامَةِ لا خلاصَ للبَشريَّةِ بالنّسبةِ إلى الإيمانِ المسيحيِّ، وماذا تريدُ المسيحيَّةُ من إلهٍ بَقِيَ في سمواتِه؟.

وإن عَسُرَ علينا بالمَنطِقِ البشريِّ تَحليلُ ذلك، تأتي محبّة اللهِ غير المَحدودة للإنسانِ لتعطيَ الجوابَ. فالتَّجَسُّدُ الإلهيُّ هو تعبيرُ حُبٍّ لعاشقٍ أحَبَّ حتّى الموتِ وما أرادَ شيئًا لنفسِهِ. نعم، هذا هو التّنازُلُ الإلهيُّ. اللهُ أصبحَ إنسانًا وبَقيَ في الوقت نَفسِهِ إلهًا. فاسمُ يسوعَ أو يشوعَ بِحَدِّ ذاتِهِ يَحمِلُ معنى التَّدبيرِ الخَلاصِيِّ بِمُجمَلِهِ، وهو يَعني باللُّغةِ العِبرِيَّةِ يهوى يُخَلِّصُ، أيِ اللهُ يُخلّصُ.

وممّا لا شّكَّ فيه، إدراكُ هذا الأمرِ وفهمُه يتخطّيان حدودَ العقلِ البشريِّ المخلوقِ وهو ليس بالأمرِ السَّهلِ، فكيف هو اللهُ وكيف هو المُتجسِّدُ في آنٍ معًا، وما معنى بالتّالي كلمةُ «ابن»؟.

أولًا، كلمةُ «ابن» الله لا تُشكِّلُ أيّةَ تراتُبِيَّةٍ في الثّالوثِ القُدّوسِ المُتَساوي في الجوهرِ، إن من ناحيةِ الأهمِّيَّةِ أو من ناحيةِ الوجودِ، ولكنّها تُستَعمَلُ فقط لتُعَبِّرَ عن أنَّ المُتَجسِّدَ والمَنظورَ أي الأُقنومَ الثّاني لهُ الطّبيعةُ نَفسُها الجوهريّةُ الإلهيّةُ الّتي هي للآبِ والرّوحِ، وإنّما خصائِصُهُ الوظائفيّةُ هي أنّهُ تَجَسَّدَ.

وهنا تتحقَّقُ آية إشعياءَ النبيّ العظيمَةِ: «يُعطيكُمُ السَّيِّدُ نفسُهُ آيةً، ها العذراءُ تَحبَلُ وتَلِدُ ابناً وتدعو اسمَهُ عمّانوئيل»، أيِ اللهُ مَعَنا(إشعياء ١٤:٧).

فلنهلّل مع تّرنيمَة سَحَرِ عيدِ الميلادِ: «لِمَ تتَعجَّبينَ يا مريمُ، ولماذا تَنذَهِلينَ في داخِلِكِ، فتُجيبُ قائلةً، لأنّي وَلَدتُ في زَمَنٍ ابنًا غيرَ محدودٍ في زَمَنٍ، وأنا لا أعرفُ رجلاً، فمَن ذا الّذي رأى قطّ وِلادةً خُلُوًّا من زَرْعٍ، لكن حيثُ يَشاءُ الإلهُ، يَغلُبُ نِظامُ الطّبيعةِ كما كُتِبَ، المَسيحُ وُلِدَ منَ البَتولِ، في بيتَ لَحمَ اليهوديّةِ».