يُجمع أكثر من مُحلّل على أنّ مساعي تشكيل حُكومة جديدة تعثّرت مرّة أخرى، وتأجّلت إلى مرحلة لاحقة، لكن في الواقع فان الطريق أمام ولادة الحُكومة غير سالك منذ أكثر من شهرين، أيّ منذ لحظة تكليف رئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ مهمّة تشكيلها، وذلك بسبب تباين جوهري في النظرة إلى هذه الحُكومة وفي مهمّتها، بين رئيس الحُكومة المُكلّف من جهة، وكلّ من "​الثنائي الشيعي​" و"التيّار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى. فكيف سنخرج من هذه المُعضلة؟.

خلال الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة، لبنان مُقبل على مشاكل إضافيّة بالجُملة، من إستمرار إرتفاع المُصابين بوباء ​كورونا​ بشكل يُهدّد جديًا القُدرة الإستشفائيّة في لبنان على إستقبال الحالات المُتقدّمة، مُرورًا بالعودة المُرتقبة قريبًا جدًا إلى الحملات الإعلاميّة المُتبادلة والنزاعات السياسيّة والقضائيّة على وقع تداعيات تطوّرات التحقيقات بإنفجار المرفأ، وبالتدقيق الجنائي في أموال ​مصرف لبنان​ وغيره من القطاعات والمؤسّسات الرسميّة، وُصولاً إلى توقّع حُصول ردّات فعل شعبيّة غاضبة عند تلمّس الإرتفاع المُرتقب الإضافي بالأسعار مع الشروع في رفع الدعم الجزئي والكلّي وبشكل تدريجي عن كثير من السلع والخدمات. وممّا سبق من الواضح أنّ لبنان بحاجة ماسّة إلى حكومة جديدة، اليوم قبل الأمس، وحتى أمس قبل اليوم–إذا جاز التعبير، على أن تكون هذه قويّة ومُتماسكة وفاعلة، وخُصوصًا قادرة على تحمّل كرة النار الكبيرة المَوروثة. وبالتالي، من شأنالإستمرار بالدوران في الحلقة المُفرغة أن يُؤدّي إلى نتائج كارثيّة على مُختلف الصُعد، علمًا أنّ اللبنانيّين يُعانون أصلاً من أوضاع لا يُحسدون عليها إطلاقًا.

وسبب التعثّر أنّ رئيس الحُكومة المُكلّف راهن عند تكليفه مُجدّدًا، على أنّ الضغط الخارجي من جانب الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، مَعطوفًا على الضُغوط الحَياتيّة والمَعيشيّةالخانقة في لبنان، ستدفع كل القوى السياسيّة لتسهيل مهمّته، فيُشكّل حُكومة "الإختصاصيّين" التي يرغب بها، على أن تنال ثقة نوّاب الكتل السياسيّة التي سمّته للتكليف، من باب الإرتضاء بالأمر الواقع. لكنّ هذا الأمر لم يحصل، وهو كان أصلاً مدار تشكيك كبير من قبل العديد من المُحلّلين والقوى السياسيّة الأخرى، حيث إصطدمت مُحاولات الحريري بخلافات على مُستوى السُلطات المَمنوحة في الدُستور لكلّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلّف في ما خصّ عمليّة تشكيل الحُكومة. وواجه الحريري أيضًا رفضًا من جانب "الثنائي الشيعي" لمُحاولات التنصّل من واقع التوازنات السياسيّة الحاليّة في لبنان، حيث رفض "الثنائي" إستبعاده عن التشكيلة الحُكوميّة وإلغاء نتائج الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، وأصرّ على الحُصول على وزارات مُحدّدة وعلى تسمية الوزراء الذين سيمثّلونه. لكنّ "الثنائي" تنحّى جانبًا ظاهريًا، وطلب أن يتمّ التفاهم أوّلاً على الحُكومة بين رئيس الجُمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلف، قبل أن يصل الأمر إلى إختيار الوزراء والحقائب من الحصّة الشيعيّة، بحيث بدت العرقلة في مكان آخر. وبالنسبة إلى "التيّار الوطني الحُرّ" فهو بدوره تنحّى جانبًا ظاهريًا، حيث طلب بدوره أن يتمّ التفاهم مع رئيس الجُمهوريّة على التشكيلة، وأن يُعامل بشكل مُتساوٍ مع باقي القوى الأساسيّة لا غير. لكنّ هذا المَطلب يعني عمليًا أن يقوم "التيّار" بتسمية الوزراء المَحسوبين عليه–ولوّ بشكل غير مُباشر، وأن يتمّ التفاهم معه على الحقائب من حصّته، وأن ينال حجمًا ضُمن الحصّة المسيحيّة مُوازيًا لما سيناله كلّ من "الثنائي" ضُمن حصّة الطائفة الشيعيّة، و"تيّار المُستقبل" ضمن حصّة الطائفة السنيّة. أكثر من ذلك، تصاعد الصراع بين فريق رئيس الجُمهوريّة وفريق رئيس الحُكومة المُكلّف، على وزارتي الداخليّة والعدل بالتحديد، لأكثر من إعتبار، لا سيّما لجهة الرغبة المُتبادلةبالسيطرة على رأس القضاء، وعلى الذراع الأمنيّة المُنفّذة للقرارات القضائيّة، في ظلّ المَلفّات القضائيّة المَفتوحة حاليًا، وتلك التي يُنتظر فتحها في المُستقبل القريب بدعاوى فساد وغيرها(1)، إضافة إلى التحضّر مُسبقًا لإحتمال الإشراف مُباشرة على الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، في حال إجرائها في موعدها المُقرّر في ربيع العام 2022.

وممّا سبق، يُمكن القول إنّ العقبات عميقة ومُتعدّدة أمام التشكيل، وكل ما يُشاع من تفاؤل وعن مواعيد قريبة لولادة الحُكومة ليس صحيحًا، حيث أنّ عمليّة شدّ الحبال مُرشّحة لأن تطول، وموعد تشكيل الحُكومة غير مَعلوم حاليًا. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ أكثر من طرف ينتظر ما سيحصَل على مُستوى الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، حيث يُفترض أن تنتقل السُلطة إلى الرئيس الأميركي المُنتخب ​جو بايدن​ في 20 كانون الثاني المُقبل كحدّ أقصى، ليتمّ من بعدها تحديد الخطوط العريضة لأكثر من ملفّ إقليمي دقيق وحسّاس، وليتمّ عندها–ربّما، الإفراج عن الملف اللبناني ضُمن تسوية إقليميّة ما!.

(1) يُذكر مثلاً أنّ النائبة العامة الإستئنافيّة في جبل لبنان القاضية ​غادة عون​ إدعت بالأمس القريب على المدير العام لقوى الأمن الداخلي ​اللواء عماد عثمان​ وعلى العميد حسين صالح، بجنحة "مُخالفة أمر قضائي والإخلال بالواجب الوظيفي"، على خلفيّة منع مفرزة الضاحية الجنوبيّة من التعاون مع القاضية عون في ملفّ "الدولار المَدعوم"، الأمر الذي يُفسّر أهميّة السيطرة على وزارتي الداخليّة والعدل في آن واحد.