لم يكن العام 2020 سهلاً على معظم اللبنانيين. فهو قد يكون العام الأصعب، منذ إنتهاء الحرب اللبنانية في العام 1990، على كافة المستويات. من الأوضاع الصحية حيث البلاد لم تكن بعيدة عن إنتشار فيروس كورونا المستجد، مروراً بالإنهيار المالي والإقتصادي وما تركه من تداعيات على الصعد الإجتماعية والإقتصادية، وصولاً إلى الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من آب. ليبقى الأهم هو السقوط الأخلاقي لمجمل القوى السياسية، التي أثبتت مرة جديدة عدم قدرتها على إبتكار الحلول، وإحترافها تضييع الوقت وخلق الأزمات من أجل تحقيق أهدافها وخدمة مصالحها الخاصة، بدليل تكرار مشهد دخول لبنان عاماً جديداً من دون وجود حكومة كاملة المواصفات.

في بداية العام 2020، كان لبنان يعيش على وقع تحركات شعبية في الشارع تطالب بالتغيير ورحيل الطبقة السياسية، انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019. في حين كانت حكومة سعد الحريري قد قدمت إستقالتها من دون الإتفاق على تشكيل حكومة أخرى. في 21 كانون الثاني ولدت حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة حسان دياب، بعد أخذ ورد وخلافات بين قوى الأكثرية الداعمة لها، قبل أن تقدم إستقالتها في 10 آب.

تلك الخلافات، كانت السبب الرئيسي في عجز الحكومة عن تحقيق إنجازات يمكن البناء عليها، بعد أن كانت قد قررت التوقف عن دفع سندات اليوروبوند في السابع من آذار، من دون تقديم خطة إنقاذ واقعية يمكن أن تقود البلاد إلى بر الأمان. نظراً إلى صراع المصالح بين أركانها وعدم جرأتهم على إتخاذ القرارات المناسبة، الأمر الذي زاد الأوضاع صعوبة وأسقط الخطة التي كانت قد تقدمت بها في اللجان النيابية، وترك تداعيات خطيرة على الأوضاع الإقتصادية والمالية. تمثلت بشكل أساسي في إنهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، في ظل عدم الوصول إلى إتفاق مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي حاول غالبية اللبنانيين إلى صيارفة، يسألون عند كل صباح عن سعر الصرف، الذي أدى إلى إنهيار قدراتهم الشرائية وزاد من نسبة الفقر في البلاد، من دون تجاهل الصدامات التي تركها بين المودعين والمصارف.

في الإطار نفسه، لم يكن تجاهل موضوع الدعم المقدم من مصرف لبنان على المواد الأساسية: الدواء والمحروقات والطحين وبعض السلع الغذائية، الذي أثيرت ولا تزال حوله الكثير من علامات الإستفهام، بسبب عدم قدرته على تحقيق الأهداف المتوخاة منه. لتكون النتيجة في الأشهر الأخيرة من العام إنطلاق البحث في ما بات يعرف بـ"ترشيد" الدعم، نظراً إلى عدم قدرة مصرف لبنان على الإستمرار به إلى ما لا نهاية. وهنا كان من الواضح أن القوى السياسية تريد أن ترمي كرة النار هذه على عاتق حكومة تصريف الأعمال، التي كانت قد حملت الإنهيار المالي والإقتصادي، كي ترفع مسؤولية إتخاذ قرارات غير شعبية عن كاهلها.

حالة الإرباك على المستوى الإقتصادي والمالي لم تكن وحدها الأزمة التي عانت منها حكومة تصريف الأعمال، التي وصفت بـ"حكومة اللجان الوزارية"، بل هي أيضاً واجهت حالة ممثالة في كيفية التعامل مع إنتشار فيروس كورونا المستجد، بعد أن كانت سجلت أول إصابة، في 21 شباط، لمواطنة لبنانية آتية من إيران. حيث كانت القرارات متناقضة في كيفية تعامل مع هذه الأزمة في ظلّ الفشل في رفع مستوى الجهوزيّة على المستوى الصحي، الأمر الذي قاد إلى إعلان الإغلاق التام أكثر من مرة، مع ما تركه ذلك من تداعيات كارثية، في ظل عدم القدرة على دعم المؤسسات الإقتصادية والعمال المياومين بشكل رئيسي. من دون تجاهل ما حصل من سجالات وإتهامات حول ملف التدقيق المالي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، التي انتهت بإقرار قانون رفع السرية المصرفية في المجلس النيابي.

في ظل هذه الوقائع وقعت الكارثة الأكبر في هذا العام، التي تمثلت بالإنفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، الذي خلف دماراً كبيراً في قلب العاصمة وأدى إلى سقوط المئات من الضحايا والجرحى، نتيجة الإهمال والفساد، بالدرجة الأولى، الذي قاد إلى إبقاء 2700 طن من مادة نيترات الأمونيوم على أرض المرفأ سنوات من دون أن يفكر أحد في التخلص من هذه القنبلة الموقوتة قبل أن تنفجر. لتفتح من جراء ذلك جولة جديدة من تقاذف المسؤوليات بين الأفرقاء السياسيين من دون أن يتمكن المواطنون من معرفة حقيقة ما حصل حتى اليوم، لا بل أكثر من ذلك تشي المعطيات الراهنة بسعي تلك القوى إلى حصر المسؤولية بمجموعة من الموظفين، بعد رفع الحصانات الدستوريّة والمذهبية في وجه المحقق العدلي القاضي فادي صوان.

هذه الكارثة كان من المفترض أن تكون نقطة الإنطلاق نحو مرحلة جديدة، لا سيما بعد مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار في مناسبتين، ودعا إلى التحرك سريعاً، طارحاً خطة إنقاذية تقوم على تشكيل حكومة مهمة لفترة محددة تتولى تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الضرورية. إلا أن القوى السياسية، بعد أن توافقت على تسمية السفير اللبناني في برلين مصطفى أديب لتشكيل تلك الحكومة، وضعت العصي في دواليب تلك الخطة، الأمر الذي دفع أديب إلى الإعلان عن إعتذاره عن إكمال المهمة. بعد ذلك، خرج رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ليطرح نفسه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة، من أجل تنفيذ تلك الخطة.

في 22 تشرين الأول، كلف الحريري رسمياً بتشكيل الحكومة العتيدة، لكن منذ البداية كان من الواضح أن مهمته لن تكون بالسهولة التي يتصورها، لا سيما أن رئيس الجمهورية، في ظل عدم التوافق المسبق على تسمية رئيس الحكومة المكلف، كان قد أعلن مسبقاً أنه لن يتخلى عن دوره في التكليف والتأليف. لتكن النتيجة عدم ولادة الحكومة رغم تجاوز عدد الإجتماعات التي عقدت بين الجانبين الأربعة عشر، على وقع إتهامات متبادلة، لا سيما بين تيار "المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، حول المسؤولية عن العرقلة. في حين تنقسم القوى السياسية حول الأسباب الحقيقة لما حصل، بين ما يضع الأمر في سياق الصراع على الحصص والمكاسب ومن يرى الأمر يعود إلى التطورات الإقليمية والدولية، خصوصاً الرهان على تسلم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة الرئيس المنتخب جو بايدن السلطة في الشهر المقبل.

في هذا المجال، لا يمكن تجاهل الدور السلبي الذي لعبته الإدارة الأميركية الحالية برئاسة دونالد ترامب طوال الأشهر الماضية، خصوصاً من خلال سياسة العقوبات التي طالت شخصيات من خارج دائرة "حزب الله" لكن متحالفة معه، كرئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل والمستشار السياسي لرئيس المجلس النيابي نبيه بري الوزير السابق علي حسن خليل والقيادي في تيار "المردة" الوزير السابق يوسف فنيانوس، الأمر الذي ساهم أيضاً في عرقلة المبادرة الفرنسيّة، نظراً إلى أنه قاد الأفرقاء المعنيين إلى التشدد في مطالبهم بشكل أو بآخر. مع العلم أن معظم المعطيات تتحدث أيضاً عن أحد أسباب عدم ولادة الحكومة هو تهديد هذه الإدارة رئيس الحكومة المكلّف بفرض عقوبات عليها في حال تمثيل "حزب الله" فيها، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

من ضمن الأحداث التي كانت لافتة في العام 2020 أيضاً، يمكن الإشارة إلى الحكم الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة إغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، في 18 آب، الذي دان العضو في "حزب الله" سليم عياش. بينما نجحت الأجهزة الأمنية في تحقيق إنجاز نوعي تمثل في الكشف عن خلية إرهابية كانت نشاطة في منطقة الشمال، بعد أن قادت الجريمة التي حصلت في بلدة كفتون في الكورة إلى كشف كامل خيوطها. في حين وقعت، في الشهر الأخير، جريمة لا تقل خطوة تمثلت بعملية قتل المواطن جورج بجاني في بلدة الكحالة، في عملية وصفت من قبل وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بالمنظّمة.

في هذا العام لا يمكن أيضاً تجاهل إنطلاق مفاوضات غير مباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، في 14 تشرين الأول، برعاية الأمم المتحدة ووساطة الولايات المتحدة. بالرغم من توقف هذه المفاوضات بعد حوالي الشهرين من إنطلاقها بسبب الخلافات في وجهات النظر بين الوفدين المفاوضين، مع العلم أن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو أعلن، في الأيام الأخيرة من العام، استعداد بلاده لدعم حوار بناء بين إسرائيل ولبنان بشأن ترسيم الحدود البحرية، ودعا الجانبين لمواصلة المحادثات.

من حيث المبدأ، مجمل هذه الملفات من المفترض أن تنعكس على العام المقبل، حيث السؤال الأبرز سيكون عن موعد ولادة الحكومة المقبلة، لا سيما مع إقتراب موعد تحقق رهان معظم الأفرقاء السياسيين، أي تسلم إدارة بايدن السلطة في أميركا، نظراً إلى أنه من المفترض أن تكون هي المفتاح لمواجهة مختلف التحديات التي تواجه البلاد، لا سيما على المستويات المالية والإقتصادية والإجتماعية. فهذه الحكومة هي التي من المفترض أن تقرر كيفية التعامل مع مسألة ترشيد أو رفع الدعم على السلع الأساسية، وهي أيضاً التي من المفترض أن تنجز الخطتين المالية والإقتصادية، بعد إتمام الإتفاق مع صندوق النقد الدولي، لتفتح الباب أمام إمكانية إخراج لبنان من المأزق الذي أوقعته به القوى السياسية الداعمة لها. ليكون السؤال الأهم هو هل ستكون تلك القوى على قدر المسؤولية أم ستثبت مرة جديدة عجزها وعدم مبالاتها بهموم اللبنانيين، الأمر الذي يعني المزيد من السجالات السياسية والطائفية التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تغني عن جوع، والرهان على إستحقاقات إقليمية ودولية جديدة؟.

في مطلق الأحوال، هذه الصورة السوداوية التي كانت طاغية على العام 2020، التي تتزامن مع عدم وضوح الرؤية بالنسبة إلى العام 2021 حيث يذهب الكثيرون إلى الحديث عن أحداث أمنية أو إنفجار إجتماعي نتيجة الأوضاع الإقتصادية القائمة، لا يجب أن تعني، بأي شكل من الأشكال، فقدان الأمل، بل على العكس من ذلك قد تكون البوابة التي تفتح الطريق أمام إعادة بناء البلد على أسس صلبة على كافة المستويات المالية والإقتصادية والإجتماعية والأهم السياسية. ففي حال نجحت القوى السياسية، رغم الأمل الضئيل في ذلك، في تجاوز خلافاتها وصراعاتها على الحصص والمكاسب، يمكن أن تساهم في إنقاذ لبنان من الواقع الصعب الذي يمر به. أما في حال فشلها من جديد، فإن الأمل يجب أن ينصب على أن يقود ذلك إلى التغيير المنشود، الذي يطمح إليه جميع اللبنانيين، بعيداً عن الشعارات غير الواقعية التي كانت قد طرحت في الماضي، وأيضاً عن الصراعات المذهبية والطائفية التي سعت تلك القوى إلى تحريكها من أجل إعادة إنتاج نفسها، بعد فقدان القسم الأكبر من المواطنين الثقة بها.