كلمة الميلاد لهذه السّنة، التي لا تُشبه غيرها من سابقاتها لِما حملته من مآسِ وأوجاعٍ وضيقات، هي كلمة الله لأشعيا النبيّ التي تُقدّم إلى ​العالم​، "الولد العجيب" الذي سيُخلّص العالم. هذه الكلمة هي التي ستصل بنا في النهاية إلى قلب مغارة ​بيت لحم​، حيث الله في مزود، وحيث يلتقي ​الإنسان​ تواضع الإله ومحبته ورحمته.

ومن حيث هو يسوع، سنستقي بركة، ونعمةً، وسلاماً، ورجاءً صالِحاً يُعزّينا في ضيقاتنا وآلامنا، ويُساعدنا على تخطّي واقعنا المرير واثقين بأننا مع ​المسيح​، سنخلق شيئاً مُختلِفاً وأفضل، لا بل عالماً أفضل يليق بنا...يليق بالإنسان.

يقول أشعيا: "ويَنظُرُ إِلى الأَرض فإِذا الشِّدَّةُ والظُّلمَة ولَيلُ الضِّيق ودَيجورُ الإِنحِلال. فلَيسَ لَيلٌ لِلَّتي كانَت في الضِّيق"(أش8: 22-23).

"الشَّعبُ السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور"(أش9: 1).

"فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أش7: 14).

"لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام"(أش9: 5).

"لا يَقْضي بِحَسَبِ رُؤيةِ عَينَيه ولا يَحكُمُ بِحَسَبِ سَماعِ أُذُنَيه،بل يَقْضي لِلضُّعَفاءِ بِالبِرّ ويَحكُمُ لِبائِسي الأَرض بِالإستِقامة ويَضرِبُ الأَرض بِقَضيبِ فَمِه ويُميتُ الشَريرَ بِنَفَسِ شَفَتَيه"(أش11: 3-4).

"فتَقولُ في ذلك اليَوم... هُوَذا اللهُ خَلاصي فأَطمَئِنُّ ولا أَفزَع... إهتِفي وابتَهجي يا ساكِنَةَ صِهْيون فإِنَّ قُدُّوسَ إِسْرائيلَ في وَسْطِكِ عَظيم"(أش12: 1-6).

لِماذا أبصر الشّعب نوراً عظيماً؟ "لأنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ"(أش9: 6).

ولكن ما الجديد في هذا "الولد"؟ ولِما هو مختلِفٌ عن سائر الأولاد؟ وما الذي بإمكانٍ وَلدٍ أن يُقدّمه للبشرية؟ وكيف لوَلدٍ أن يُخلّص العالم كا تقول النبوءة؟.

هذا "الوَلد" هو يسوع ابن الله الآب، وقد أرسله الله إلى العالم ليُخلّص به العالم. ابن الله صار ولَداً.الله الكبير المتعالي المتسامي صاحب الألقاب التي لَم تُعطَ لبشر، أصبح طِفلاً صغيراً، إنساناً كسائر البشر، أصبح "ولَداً". صار شريكاً في اللحم والدّمّ كالأبناء، أي مثلنا نحن البشر إلا في الخطيئة:" لِيُبْطِلَ بِالـمَوتِ مَنْ لَهُ سُلْطَانُ الـمَوت، أَي إِبْلِيس"(عب2: 14).

يا له من شرف أن يدخل الله عالم البشر من خلال البشر، أن يصير ولَداً من لحمٍ ودم، ويُقيم معنا "عمانوئيل"! يا له من شرف أن تحلّ الألوهة في الطبيعة البشرية وتؤلّهها! يا له من شرف أن يحلّ غير المائت في المائت ليُقيمه إلى ​الحياة​ التي لا تموت! إنّه شرفٌ عظيم مجّانيّ لا نستحقّة، ومع ذلك يرضى الله الآب بأن يمنحنا إياه في ابنه يسوع المتجسّد.

هذا هو الميلاد بمعناه الحقيقي: الله صار جسداً لكي نصير نحن آلهة! فهل نقبل ونسمح بتأليهنا؟ هل نقبل بأن نحمل هذا الشّرف العظيم كخاتمٍ على قلبِنا وكعلامة انتماء إلى مَن أحبّنا هذا الحُبّ، فَرَضيَ بأن يتواضع هذا التواضع، ويتخلّى عن مجده ليستردّ لنا المجد الأوّل الذي منحنا إيّاه في الفردوس، وخسرناه بفعل خطايانا؟ هل نقبل بأنّ نُسلِّم الإله الآتي إلينا، ذاتنا وحياتنا في كامل التواضع والثّقة، ليُحوّلها إليه، مردّدين مع مريم أمّ "الولد": "ها أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولِك"(لو1: 38).

يؤتيكم السيّد آيةً

"فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل"(أش7: 14).

يسوع ابن الله في الأزل، هو ابن مريم في الزّمن: هو ابن الله كونه لَم يأتِ من زرع إنسان، بل من الرّوح ​القدس​. وابن مريم كونه لم يأخُذ جسداً من الله بل منها؛ فمن لحمها أخذ لحمه، ومن دمها دمه. والسيّد الذي يتحدّث عنه أشعيا النّبي بإلهامٍ من الرّوح القدس، هو الله الآب؛ فالله الآب بذاته سيُعطي البشريّة "آيةً" أي "علامةً" خاصّة.

ولكن ما هي هذه العلامة؟

أنّها ابنه "الوَلَد" الذي سيأتي من عذراء: "فها هي العذراء تحبل وتَلِد ابناً". العذراء عادة لا تحبل وتّلِد ابناً قبل أن تتزوّج. والعذراء التي يتحدّث عنها أشعيا هي صبيّة، آنسة، لم تتزوّج بعد.

عبارة "عذراء" في ​اللغة​ العبرية (بتولاه-علماه)، تعني: "شيء خفي مُخَبّأ، مجهول لم يُعرف بعد. وشيئ بقي سرّاً، ولم يُعرف، وشيئ لم يَقترب منه أحد، محجوب ومستتر وخفي عن العيون" (Theological Wordbook of the Old Testament, UT19, N; 1969).

يُرسل السّيد ابنه من صبيّة لَم تكشف ذاتها لأحد. جسدها مُستتر وخفيّ عن العيون. وهذه الصّبيّة هي عذراء ستحمِل وتَلِد ابن السيّد الـ"عمانوئيل" في كامل العُذريّة.

حبلَت ​مريم العذراء​ بيسوع في فكرها وقلبها، سلّمت عقلها وقلبها ليسوع قبل أن تُسلّمه جسدها. وبهذا شكّلت لنا مريم قُدوةُ ومثالاً في أن الإستعداد ل​عيد الميلاد​ يتمّ أولاً في الدّاخل، من خلال السّهر المُزيّن ب​الصلاة​ والتوبة والعطاء، وبعد ذلك يأتي الإستعداد الخارجي، لئلاّ نُضيّع فرصة استقبال الربّ، ويصحّ فينا ما قاله يوحنا الإنجيلي: "جاءَ إِلى بَيتِه، فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه"(يوحنا ١: ١١).

من حشا مريم التي كانت أوّل مَن آمنت، مرَّ يسوع إلى العالم. ومن حشا المؤمنين بيسوع، تتدفّق "أنهار ماء الحياة"(يو7: 38)، ويُتابع يسوع مروره في العالم مُخلّصاً. آمين