بعيدًا عن المَواقف السياسيّة الطُوباويّة، والسجالات الإعلاميّة الشعبويّة، والتصاريحالتي تُوحي بالتفاؤل بشكل زائف، إنّ عمليّة تشكيل الحُكومة العالقة منذ 22 تشرين الأوّل الماضي(1)، لا تزال تُواجه مشاكل كُبرى لن تُحلّ لا في المُستقبل القريب ولا البعيد، ما لم يتمّ رفع "الفيتوات" المُتقابلة بين رئيس "التيّار الوطني الحُر" ​جبران باسيل​ ورئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​. ماذا في التفاصيل؟.

بمُوازاة تعقيدات إقليميّة لا تُخفى على أحد على مُستوى تشكيل الحُكومة، إنّ رئيس الجُمهوريّة العماد ميشال، ومن خلفه رئيس "التيّار الوطني الحُر"، يضعان فيتوات واضحة، أبرزها:

أوّلاً: لا لحكومة يكون العدد فيها من 14 أو 18 وزيرًا، أو أي رقم شبيه لا يسمح بتأمين "الثلث الضامن أو المُعطّل"لفريق رئيس الجُمهوريّة، حيث أنّ المسألة لا تقتصر على منح كلّ من الدروز والكاثوليك وزيرًا واحدًا أو وزيرين لكل منهما، بل تتجاوز ذلك إلى مسألة "الثلث" المَذكور، وإلى مسألة الأغلبيّة العدديّة على طاولة ​مجلس الوزراء​،تبعًا للتوازنات السياسيّة التي قامت في لبنان إثر الإنتخابات النيابيّة الأخيرة.

ثانيًا: لا لأن يتفرّد رئيس الحُكومة المُكلّف بإختيار القسم الأكبر من الوزراء، لا سيّما منهم الوزراء المسيحيّين، حتى لو إختار الحريري بعض الأسماء من الشخصيّات التي يقترحها الرئيس، خاصة في ظلّ الخلاف على تفسير الدُستور، وعلى الصلاحيّات، ناهيك عن رفض "التيّار" عدم التعامل معه بالمثل، بإعتبار أنّ "​الثنائي الشيعي​" يفرض مشيئته في عمليّة التشكيل، من دون أن يتمكّن الحريري من مُواجهة هذا المنحى.

ثالثًا: لا لتطبيق مبدأ المُداورة على وزارات مُحدّدة دون سواها، وبالتالي لا لإنتزاع وزارتي العدل والطاقة من فريق "الرئيس–التيّار"، طالما أنّ القوى السياسيّةالأخرى تتمسّك بوزارات كانت قدإستحوذت عليها في الحُكومات السابقة.

في المُقابل، إنّ رئيس الحكومة المُكلّف، ومن خلفه "تيّار المُستقبل" بطبيعة الحال، يضع بدوره فيتوات مُقابلة واضحة:

أوّلاً: لا لمنح أيّ فريق سياسي واحد، الثلث المُعطّل، وتحديدًا لفريق رئيس الجمهوريّة–التيّار الوطني الحُرّ، خاصة وأنّ الهدف من الحُكومة المُقبلة أن تكون حكومة مُنتجة وغير سياسيّة، ناهيك عن أنّ القوى السياسيّة المُصنّفة ضُمن تحالف "التيّار–قوى ​8 آذار​" العريض، ستحصل أصلاً على نحو ثلثيّ مجلس الوزراء في حكومة من 18 وزيرًا.

ثانيًا:لا لسيطرة فريق رئيس الجُمهوريّة–التيّار على وزارات الأمن والقضاء، أي وزارات الدفاع والداخليّة والعدل، لأنّ هذه السيطرة ستُخوّله إصدار الأحكام القضائيّة ضُدّ أي جهة، وتنفيذها ميدانيًا، في ظلّ إعتماد سياسة كيديّة ظهرت في أكثر من دعوى قضائيّة في الماضي القريب.

ثالثًا: لا لأن تتمثّل القوى السياسيّة بأسماء حزبيّة غير مُباشرة ومُموّهة عن طريق شهادات الإختصاص، أي لا لحُكومة شبيهة بحُكومة حسّان ديّاب من حيث الشكل والمَضمون.

وبالتالي، في ظلّ هذه الفيتوات المُتقابلة، وطالما أنّ المُبادرة الفرنسيّة التي كان قد أطلقها الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ صارت بحكم المُجمّدة، وطالما أنّ الملف اللبناني مُرشّح لأن يكون في أدنى سُلّم أولويّات الإدارة الأميركيّة الجديدة، فإنّ عمليّة تشكيل الحُكومة ستبقى مُتعثّرة في المدى المَنظور، بغضّ النظر عن وساطة سياسيّة من هنا، وعن إتصالات من جانب البطريركيّة المارونيّة من هناك، إلخ. أكثر من ذلك، وبما أنّ "حزب الله"–وبتأثير مُباشر من رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​، لا يرغب بمُمارسة الضُغوط على رئيس الحُكومة المُكلّف، لجهة رفع سيف التهديد بإستبداله برئيس حكومة حيادي أو من صفوف قوى "8 آذار"، خاصة في ظلّ وُجود تعقيدات دُستوريّة كُبرى أمام إمكان سحب التكليف من رئيس حكومة مُكلّف، فإنّ الأمور مُرشّحة لأن تبقى عالقة في الملف الحُكومي، على وقع عمليّة عضّ الأصابع المُتبادلة بين الحريري وباسيل، في الوقت الذي تزداد فيه سرعة إنحدار لبنان نحو الهاوية السحيقة على مُختلف الصُعد! وفي حال إستمرّت الأمور على ما هي عليه حاليًا، من غير المُستبعد أن تتراجع الأولويّة من مسألة تشكيل الحُكومة، ليتحوّل الإهتمام إلى مسألة تعديل النظام ككلّ، في ظلّ رفض أكثر من جهة فاعلة ضمن قوى "8 آذار" إجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة تُعيد تشكيل السُلطة الحاكمة بشكل ديمقراطي.

(1) تاريخ تكليف النائب سعد الحريري تشكيل الحُكومة الجديدة.