مع عودة رئيس ​الحكومة​ المكلَّف ​سعد الحريري​ إلى البلاد، منهياً "إجازة الأعياد" المطوَّلة التي قضاها متنقّلاً ما بين المملكة العربيّة ​السعودية​ و​الإمارات​ و​فرنسا​، بحسب المعلومات المتوافرة، اتّجهت الأنظار إلى "وِجهته التالية"، واللقاء المفترض بينه وبين ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ لاستكمال المفاوضات الحكوميّة المجمَّدة.

ثمّة في هذا السياق، من انتظر أن "يحطّ" الحريري في بعبدا ليعقد لقاءً ثنائيّاً مع عون، يتابعان فيه البحث بالملفّ الحكومي من حيث انتهى قبل الأعياد، ومن اعتقد أنّ "الوِجهة" ستكون أولاً ​بكركي​، في ظلّ "الوساطة" التي فعّلها البطريرك ​بشارة الراعي​، والذي تشير بعض المعلومات إلى أنّه ينوى "رعاية" لقاءٍ بين الرجلين في الأيام القليلة المقبلة.

إلا أنّ المفاجأة كانت في "وجهة" الحريري، التي عبرت الحدود، ووصلت إلى مدينة ​إسطنبول​ التركية، حيث التقى الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​، في زيارةٍ أثارت الكثير من التكهّنات وعلامات الاستفهام، ليس فقط لكونها أتت مفاجئة، وغير مُعلَنة، ولكن قبل ذلك، باعتبارها "حمّالة أوجه"، وبالتالي تفسيراتٍ واستنتاجاتٍ متباينة بالمُطلَق...

"استفزاز"؟!

لعلّ المفارقة اللافتة في زيارة الحريري إلى ​تركيا​ استندت، بالدرجة الأولى، إلى "التناقض" بين هذه المحطة، والمحطات التي شملتها جولته الخارجيّة الأخيرة، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، اللتيْن تتّسِم علاقتهما بتركيا بما يشبه "العداء المُطلَق"، الذي لا يُعتقَد أنّ المصالحة ​الخليج​ية التي لم يجفّ حبرها حتى الآن، ولم تُختبَر عمليّاً بعد، أنهت مفاعيله بشكل "تلقائيّ"، وإن أبدت ​أنقرة​ "ترحيباً" بها بشكلٍ أو بآخر.

وفي السياق نفسه، ثمّة من قارن بين المحطّة التركية في جولة الحريري، ومحطّته الفرنسيّة الثابتة، وهو الذي حوّل نفسه في الآونة الأخيرة إلى ما يشبه "المندوب السامي" الكفيل بتطبيق المبادرة الفرنسيّة، وهي المبادرة نفسها التي وظّفها الرئيس التركي في سياق "صراعه الشخصيّ" مع الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، والذي خرج في كثيرٍ من الجوانب عن الآداب واللياقات المتَّبَعة في الأعراف السياسيّة المرعيّة الإجراء.

استناداً إلى ما سبق، يقرأ البعض نوايا "استفزازيّة" خلف لقاء الحريري وأردوغان، تنطلق أولاً من التوقيت الذي يبدو "مريباً" في مكانٍ ما،فهو جاء في وقتٍ يكثر فيه الحديث عن أنّ فرنسا صرفت عمليّاً النظر عن ​لبنان​، بعدما عجزت عن فرض إيقاعها ومبادرتها على الأفرقاء، بدليل تأجيل زيارة الرئيس الفرنسي التي كانت مُنتظرة الشهر الماضي، إلى أجَلٍ غير مسمّى، وبعدما عجز عن الخروج من جولته الخليجيّة، بأيّ لقاءٍ رسميّ يُذكَر مع المسؤولين السعوديين والإماراتيين، ولو من باب "رفع العتب"، أو من الصفّ الثاني.

ومن هنا، يرى أصحاب هذا الرأي أنّ الحريري سعى من خلال لقائه أردوغان إلى توجيه رسائل "نارية" إلى الحلفاء والشركاء والأصدقاء، مفادها أنّ هناك "بدائل متوافرة"، في حال الإصرار على تجاهله والتعامل معه بهذا الشكل، علماً أنّ علاقته مع الرئيس التركي، كما يقول المحسوبون على الحريري والمقرّبون منه، هي علاقة تاريخيّة، وليست وليدة اليوم، واللقاءات بين الرجلين لم تنقطع في أوج الخلاف التركيّ-الخليجيّ.

تفسيرات متباينة

لكنّ هذه المقاربة "الاستفزازيّة" تبدو مُستبعَدة إلى حدّ بعيد، وفقاً للأوساط السياسية القريبة من الحريري والبعيدة منه على حدّ سواء، والتي ترى أنّ "الشيخ سعد" لا يمكنه أن يغرّد خارج الثوابت الخليجيّة، مهما كبُر الجفاء أو اتّسع، وهو لن يبادر إلى "الانقلاب" على السعودية تحديداً، حتى لو صحّ كلّ ما يُكتَب ويُثار عن وجود "فيتو" على ترؤسه للحكومة، بدليل النأي الخليجي الكامل بالنفس عن لبنان، رغم الأزمات المتفاقمة التي يتخبّط فيها.

ولهذه الأسباب، ثمّة من يؤكّد أنّ زيارة الحريري إلى إسطنبول ولقاءه مع الرئيس أردوغان، جاءت "منسَّقة" بالكامل مع الجانبيْن السعودي والإماراتي، بل إنّ هناك من لم يتردّد في اعتبار هذه الزيارة بمثابة "مهمّة" كُلِّف بها الحريري من الخليجيّين، لجسّ نبض أردوغان، في ضوء المتغيّرات الإقليمية التي ترجمت في قمّة العُلا مصالحةً مع قطر، يعتقد المراقبون أنّه لا بدّ لتركيا أن تلتحق بها، بوصفها قوّة أساسيّة واستراتيجيّة في المنطقة لا يمكن تجاهلها، خصوصاً في ضوء المساعي لتشكيل "جبهة" ضدّ ​إيران​.

لكن، في مقابل هذا الرأي، ثمّة من يتحدّث عن بُعدٍ "شخصيّ" للزيارة، وإن كان منسَّقاً مع الجانب الخليجيّ، ينطلق من رغبة الحريري بتوطيد شبكة العلاقات التي نسجها وبناها على امتداد السنوات، وتوظيفها بما يخدم أجندته السياسيّة الراهنة، والتي لا بدّ أن تتأثّر بالمتغيّرات الحاصلة في المنطقة، وهو بالتالي قام بهذه الزيارة بعد حصوله على "​الضوء​ الأخضر" اللازم، علماً أنّ هناك من يشير إلى أنّ جدول أعمال الزيارة لم يقتصر على المُعلَن منه لجهة العلاقات الثنائية وكيفية تطويرها، بل شمل بعض الإشكاليّات المرتبطة بوضع الحريري الماليّ، في ظلّ وجود بعض القضايا العالقة على هذا الصعيد بينه وبين الأتراك.

قصر بعبدا​ أقرب!

بمُعزَل عن مدى دقّة التفسيرات والتحليلات التي أعطيت لزيارة الحريري إلى إسطنبول ولقائه الرئيس التركي أردوغان، والتي قد تكون وقعت في فخّ التأويلات والتحليلات غير الواقعيّة، ثمّة من يتوقّف عند الإصرار على إقحام الخارج في الاستحقاقات الداخلية، وعلى رأسها ملفّ ​تأليف الحكومة​ المجمَّد.

فسواء صحّ ما حُكي عن أنّ الحريري أراد توجيه رسالة لشركائه وأصدقائه في الخليج من خلال لقائه "غريمهم الأول"، أو ما أثير عن أنّ زيارته كانت "منسَّقة" معهم، لدواعٍ واعتباراتٍ قد تكون لبنانيّة، وتمنحه جزءًا من "الاستقلاليّة" التي ينشدها، يبقى الأكيد أنّ الخارج لا يزال المتحكّم باللعبة الداخلية، بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة.

ولذلك ربما، لم يتردّد مقرّبون من "العهد" ومن رئيس الجمهورية في إيصال رسائل "مبطنة" إلى الحريري، مفادها أنّ "قصر بعبدا أقرب"، وأنّ المطلوب منه الانتقال إليه للتشاور مع ​الرئيس عون​ ب​التشكيلة الحكومية​، بدل أن يكون "ساعي بريد" لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك...