البَصيرةُ هي الإدراكُ والمَعرفة. وبصيرةُ العَقلِ والفِكرِ والتَّصرُّفِ والأحاسيسِ والمَشاعرِ والفِعلِ ورَدَّةِ الفِعلِ واتِّخاذِ القَرارِ المناسب، والأخلاقِ، والعِلمِ، والتَّربيةِ والثَّقافةِ والفنِّ والإيمان، وكثيرٍ من الأمورِ في مَسيرتِنا بِحاجةٍ للاستِنارة. عكسُ ذلك ظلام.

واكتسابُ البَصيرةِ والاستِنارةِ ليسَ بِالأمرِ السَّهل، وتَقول الفِيلوكاليا La Philocalie،("الخُبراتُ الرُّوحيَّةُ للآباءِ الهدوئيين القِدِّيسين" وهي كلمةٌ يُونانِيّةٌ تَعني مَحبَّةَ الجَمالِ أي مَحبَّة جَمالِ الله)،عن الاستنارةِ بِأنّها تَأتي بعدَ جُهدٍ كَبيرٍ يَقومُ به ​الإنسان​ُ من إفراغٍ للذَّاتِ وتَنقيةِ الأهواءِ لِيَصِلَ إلى مَرحلةِ استنارةِ الذِّهنِ L'intellect، ويُسمَّى بِاليُونانِيَّةِ"النّوس νοῦς"وهنا يتجلّى كلَّ كيان الإنسان، قلبَه وعقلَه ومشاعرَه... فيصبحُ شفَّافًا ونَقيًا بحيث يتحرَّرُ المَرءُ مِن كلِّ العَوائقِ التي تمنَعُه مِن اكتشافِ مَلكوتِ اللهِ في داخِله. وهذا يُدخِلُهُ في عالَمٍ نُورانِيّ إلهيّ لِيبدأَ في التّنعُّمِ بِأطايبِ المَلكوتِ مُنذ الآن.

لِنتَوقّفْ عند مَا قَالَهُ يَسوعُ "سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ"!(متّى ٢٢:٦-٢٣).

ماذا تعني عبارةُ "عينُكَ بَسيطة"؟ الكلمةُ الأصليَّةُ اليُونانيّة απλούς وتعني "بسيط"، وغيرَ مُرَكَّب. مثلًا نقول قطعةُ قِماشٍ مَطويّة طَيَّةً واحدة وليس طَيّاتٍ مُتتاليّة، أو قولٌ غيرُ معقّد.

وقد يَصِلُ المَعنى أيضًا إلى "مُجَرَّدٍ مِن أيّ أهواءٍ واشتهاء"، وحتّى إلى عَدَمِ إدانَةِ الآخرينَ والحُكمِ عَلَيهم.

الهَدَفُ مِن كلِّ هذا ألّا يَكُونَ عِندَنا أَهواءٌ مُتَضَارِبةٌ وشَخصيَّاتٌ مُزدَوِجَةٌ ومَسلكيَّةٌ مُتعرِّجة، وعِدَّةُ طُرُقٍ نَتَّبِعُها، ويكونُ قلبُنا ميَّالاً إليها فتستعبِدُنا، بل تكونُ لنا طَريقٌ واحِدَةٌ وهي المَسيح. وهذا يتَّضِحُ جَلِيًّا في الآيّةِ التي قالها يسوعُ بعدَها مُباشرةً: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ"(متى ٢٢:٦-٢٤).

إذًا فاستِنارَةُ الإنسانِ تُبَدِّدُ الظُّلمةَ وتَجعَلُهُ يُدرِكُ ما يَفعل. والنُّورُ يُعطي الرَّاحةَ والطُّمأنينَةَ والسَّلامَ والاستِقرار، حتّى ولو أَظلَمَتِ الدُّنيا مِن حَولِنا بِالكامِل، فكيفَ بِالأحرى إذا كان النُّورُ الإلهيُّ الّذي يُنيرُ الإنسانَ مِنَ الدّاخِل. وهُوَ النُّورُ الذي تعجَزُ الألسنَةُ عَن وَصفِه. وهذا ما حدثَ عندما تجلَّى الرَّبُّ، أي كشَفَ لِبُرهَةٍ عن طَبيعتِهِ الإلهيَّةِ، فأتى وَصْفُ لُوقا الإنجيليّ خيرَ دليل: "وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ"(٣:٩).

وكلُّ مَن سَعى إلى هذا النُّورِ واتَّحدَ بهِ، أنعَمَ اللهُ علَيهِ بِنُورِهِ، وأصبَحَ بِدَورِهِ مُشِعًّا. مُوسى النّبيُّ قَديمًا نَزلَ مِن الجَبلِ بعدَ استِلامِهِ الوَصايا، وكانَ وجهُهُ يَلمَعُ (خروج ٢٩:٣٤). والقِدّيسُ سِيرافيم ساروفسكي (١٧٥٤-١٨٣٣م) في حِوارِهِ معَ شخصٍ يُدعى "موتوفيلوف"، قَصَدَهُ يَسألُهُ عن غايةِ الحياةِ المَسيحيَّةِ، فَأجابَهُ القِدِّيسُ الامتلاءُ مِن الرُّوحِ القُدُس، ومِن ثَمَّ سأله: لماذا لا تنظُرُ إليَّ يا صَديقي؟ فأجابه موتوفيلوف: لم أعدْ أستَطِيعُ يا أبي، فإنَّ عينَيكَ يَشُعُّ مِنهُما نُورٌ كَالبَرقِ الخَاطِف، وقد صارَ وجهُكَ يَتوهَّجُ أكثرَ مِنَ الشَّمس، وقدِ انبهرت عَينايَ مِنَ النَّظرِ إليكَ. وعادَ وكتبَ شارِحًا: "تَصوَّرْ أنَّكَ رَفعتَ عَينَيكَ فجأةً إلى قُرصِ الشَّمسِ الوَهَّاجِ في عِزِّ الظُّهرِ لِتُحَدِّقَ في وَجهِ إنسانٍ دَاخلَ هذا القُرصِ وهُوَ يَتَحدَّثُ إليك."

نحنُ في صَلواتِنا نُناشِدُ النُّورَ الإلهيَّ إذ نَقولُ: "لِيتَرأفِ اللهُ عَلينا ويُبارِكْنا ويُضئْ وجهُهُ عَلينا ويَرحَمْنا". كَما نَقولُ:"بِنُورِكَ نُعايِنُ النُّور".

نحنُ أولادُ النُّورِ ونَسعى لِنَتَّحِدَ به.

​​​​​​​

يكتبُ الأستاذ بُول إفذوكِيموف في كِتابِهِ "فَنُّ الأَيقونة–لاهوتُ الجَمال" عَن تَكافُلٍ وعَيشٍ وتَعايُشٍ واتِّحادٍ بينَ الإنسانِ واللهِ، لِيبلُغَ الإنسانُ الجَمالَ النُّورانِيَّ الّذي يُحاوِلُ كَاتبُ الأيقوناتِ أن يُظهِرَهُ في وَجهِ الرَّبِّ ووالِدَةِ الإلهِ والقِدِّيسين. ويَستعملُ كلمةَ Symbiose التي تعني بِأصلِها اليُونانيّ "حياة معًا". وهنا يكونُ الإنسانُ قد استنارَ باتِّحادِهِ بِالحَقِّ (​المسيح​) والجَمالِ الإلهيّ، وهذا هو مَقصَدُ كُلِّ حياتِنا وتَكامُلِنا وكَمالِنا L'Intégrité de l'être.

نقرأُ هذا الأَحد عن أَعمى أَريحا الّذي كان يصرخ: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي"! (لوقا ٣٨:١٨). كان موجودًا في مدينةٍ يُحيطُها سُورٌ ضَخمٌ مَشهور، وقد وصفها يشوعُ بنُ نُون: "وَكَانَتْ أَرِيحَا مُغَلقَةً مُقفَلةً بِسَبَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. لاَ أَحَدٌ يَخْرُجُ وَلاَ أَحَدٌ يَدْخُلُ"(يش ١:٦).

تُلخِّصُ هذه الآيةُ مسيرةَ الإنسانِ في كثيرٍ مِنَ الأحيان. فغالبًا ما نصنعُ لأنفُسِنا أسوارًا ونتقَوقَعُ خَلفَها، فنحجُبُ نورَ اللهِ ونمنَعُهُ من الدُّخولِ إلينا. اللهُ يُريدُ تحطيمَ هذهِ الأسوارِ لِنقومَ مَعَهُ مِن ظُلمةِ خَطايانا، ولكنّه لا يفعَلُ ذلكَ رغمًا عنّا. هو ينتظر مطلَبَنا.

يُخبِرُ الكاتبُ الفَرنسيّ غوستاف فلوبير في رِوايتِهِ "مدام (إيمّا) بوفاري"، كيف سَمِعَت إيمّا وهي على فراشِ المَوتِ صُراخَ الأعمى في الشارع، وكانت قد التقته أكثرَ مِن مرّة في السّابق. وبِحَسبِ كِبارِ النُّقّادِ يُمثِّلُ الأعمى صوتَ الضَّميرِ والوُجدانِ الذي حاولَ بِأغانِيهِ سابقًا أن يَقولَ لها أنّ نَهايةَ الخَطيئةِ هو المَوت.

فهل سننتَظِرُ اللحظةَ الأخيرةَ لِنصرُخَ مِثلَ الأعمى، لِنُبصرَ الرَّبَّ ونُدرِكَه كما تَقولُ الآية؟ "وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"(١يوحنا ٢٠:٥). إلى الرَّبِّ نطلُب.