لم يبلغ الإنقسام المسيحي في ​لبنان​ هذا القدر من التشرذم والتفكّك في تاريخه، بحيث سقطت كل التحالفات والتفاهمات، حتى تلك المَصلحيّة منها، إلى درجة أنّ مصير المسيحيّين في لبنان بات مُهدّدًا جديًا. وهذا التهديد يتجاوز مسألة فُقدان الدور والنُفوذ، ومسألة السعي الشعبي إلى الهجرة الجَماعيّة، وهو يصل إلى حدود اليأس من الواقع وفُقدان الأمل بالمُستقبل، بشكل يعني عمليًا الإضمحلال والإندثار التدريجي مع الوقت، كما حصل مع الأقليّات المسيحيّة في العراق وسوريا والأراضي الفلسطينيّة، إلخ. ونظرة سريعة على مشاريع وخطط وأهداف القوى المسيحيّة الرئيسة تكشف حجم التباعد.

رئيس "تيّار المردة" الوزير السابق سليمان فرنجيّة يعمل حاليًا على خطّ واحد، يتمثّل في الوُصول إلى موقع رئاسة الجُمهوريّة الذي كان موعودًا به منذ عُقود، والذي تعرقل في الأمتار الأخيرة في كل مرّة.ولتحقيق هذا الهدف، وإضافة إلى مُحافظة "تيّار المردة" على تأييده للنظام السُوري، وعلى خطّه السياسي الإستراتيجي إلى جانب "​حزب الله​"، يتموضع فرنجيّة في إئتلاف غير مُعلن يضمّ كلاً من رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​، ورئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​، ورئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" ​وليد جنبلاط​ وآخرين. والنائب السابق فرنجيّة يُدرك أنّ وُصوله إلى الرئاسة لا يُمكن أن يمرّ عبر بوّابة "الرئيس المسيحي القوي"، كونه يفتقر إلى كتلة نيابيّة تتمتّع بالثقل الشعبي المَطلوب، وهو يُؤمِنُ أنّ المظلّة السياسيّة التي يُؤمّنها له كلّ من الرئيس السُوري بشّار الأسد و"حزب الله"، والدعم النيابي الكبير الذي يتوفّر له من خلال الإنخراط ضُمن المَنظومة الحاكمة منذ عُقود، يفتح له طريق بعبدا خلفًا للرئيس الحالي العماد ​ميشال عون​، لذلك هو لن يُهادن في علاقاته مع باقي الأحزاب المسيحيّة في المرحلة المُقبلة، لضرب مُنافسين له على منصب الرئاسة من جهة، وللحفاظ على تموضعه السياسي المَعروف منذ عُقود من جهة أخرى، لا سيّما وأنّه يعتبر أنّ الخطّ السياسي الذي ينتمي إليه هو المُنتصر محليًا وإقليميًا، وهو الذي سيُحدّد إسم رئيس الجُمهوريّة المُقبل.

رئيس حزب "الكتائب اللبنانيّة" سامي الجميّل، يُطلق النار من جهته على كل الشخصيّات والأحزاب المسيحيّة الأخرى، ليس لأهداف رئاسيّة، إنّما لأهداف إنتخابيّة وشعبويّة. فبعد الفشل الكبير الذي مُني به حزب "الكتائب" خلال الإنتخابات الأخيرة، حيث إنحصر الفوز بالنائب الجميّل مع تسجيله حاصلاً ونيّف، بشكل سمح له بإيصال نائب ثانٍ معه في دائرة جبل لبنان الثانية (المتن)، إضافة إلى فوز النائب نديم الجميّل في دائرة بيروت الأولى، مُستفيدًا من وهج الرئيس الشهيد بشير الجميّل ومن تداخل مُناصري القوّات والكتائب له، قرّر الإنتقال كليًا إلى صُفوف المُعارضة، والتلاقي والتماهي مع الإحتجاجات الشعبيّة المُناهضة لكل المَنظومة الحاكمة. ويُخطّط النائب سامي الجميّل لأنّ يتمكّن من الفوز بعدد كبير من المقاعد النيابيّة في الإنتخابات المُقبلة، من خلال تبنّي الإحتجاجات والمطالب الشعبيّة بشكل كامل، وتصنيف كل القوى والأحزاب والتيّارات في لبنان ضُمن المَنظومة الحاكمة، مع إستثناء نفسه منها، علمًا أنّ حزب "الكتائب" كان جزءًا من هذه المَنظومة قبل الإنسحاب منها، كما فعلت قوى أخرى، بغضّ النظرعن الفارق الزمني لتوقيت هذه الخُطوة ولخلفيّاتها وأهدافها. والإتجاه هو أن يبقى حزب "الكتائب" في هذا الموقع التصعيدي مع باقي القوى اللبنانيّة، والمسيحيّة بشكل خاص، في مُحاولة لإستمالة النقمة الشعبيّة العارمة تحت شعار "كلّن يعني كلّن"، وتوظيفها لمصلحته في الإنتخابات المُقبلة، عن طريق تشكيل لوائح إنتخابيّة تجمع مُرشّحي "الكتائب" مع مُرشّحين خرجوا من رحم الإحتجاجات الشعبيّة التي كانت قد إنطلقت في لبنان في 17 تشرين الأوّل 2019.

رئيس حزب "القوّات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​، الذي سحب حزبه من السُلطة إثر إنتفاضة "17 تشرين"، يضغط من جهته بقُوّة في مُحاولة لتشكيل جبهة مُعارضة للسُلطة القائمة، ولإجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة. ويُخطّط جعجع للفوز بأكبر كتلة نيابيّة مسيحيّة في الإنتخابات المُقبلة، مُراهنًا على زيادة عدد كتلة "القوات" بالتزامن مع تقلّص وتشرذم كتلة "التيّار الوطني الحُرّ"، ما سيُمهّد الطريق له لفرض نفسه مُرشّحًا رئاسيًا من خلال نظريّة "الرئيس القوي في بيئته"، والتي كانت أوصلت العماد عون قبله للرئاسة. لكنّ المُفارقة أنّ العماد عون كان يحظى بغطاء "حزب الله" وما يُمثله من نُفوذ في الداخل اللبناني، الأمر الذي يفتقر إليه جعجع بسبب تموضعه السياسي المُناهض تمامًا للمحور السياسي الذي يتزّعمه "حزب الله"، وبسبب مُحاربة كلّ من "التيّار" و"الكتائب" و"المردة" له، وكذلك بفعل إبتعاد "المُستقبل" عنه وعدم حماسة "الإشتراكي" له. وفي كلّ الأحوال، وبغضّ النظر عن إتجاهات المعركة الرئاسيّة والتطوّرات التي ستلحق بها، إنّ المعركة بين "القوات" و"التيار" على إستمالة الشارع المسيحي، مُرشّحة للإستمرار بشراسة في المرحلة المُقبلة، ما يَعني أنّ الحملات السياسيّة والإعلاميّة المُتبادلة بين القوّتين الأكبر مسيحيًا، ستتواصل وستتصاعد في المُستقبل مع إستمرار العدّ العكسيلموعد الإنتخابات النيابيّة، مع ما يعنيه هذا الأمر من زيادة في التشرذم الكارثي داخل المُجتمع المسيحي.

رئيس "التيّار الوطني الحُر" النائب ​جبران باسيل​، الذي تدهورت علاقاته السياسيّة مع مُختلف القوى السياسيّة المسيحيّة واللبنانيّة أيضًا، بإستثناء "حزب الله" الذي أبقى التحالف الإستراتيجي قائمًا معه، يُخطّط بدوره لفوز "التيّار" مُجدّدًا بأكبر كتلة برلمانيّة، وبالتالي لفرض نفسه كمرشّح طبيعي لرئاسة الجمهوريّة عند إنتهاء ولاية العماد عون، إنطلاقًا من نظريّة "المُمثّل الأقوى لطائفته" عينها. لكنّ المُفارقة أنّ النائب باسيل لن يحظى بأي غطاء مسيحي في معركته الرئاسيّة، بل انّ مُختلف القوى المسيحيّة تناصبه العداء، ولا مجال لتكرار سيناريو التفاهم الذي كان قد أزال عقبة رئيسة أمام وُصول العماد عون إلى ​قصر بعبدا​ سنة 2016. أكثر من ذلك، إنّ كل المَعلومات تؤكّد التوافق الضُمني الرباعي على الأقلّ، بين "حركة أمل" و"تيّار المُستقبل" و"الحزب الإشتراكي" و"تيّار المردة"، على الوُقوف صفًّا واحدًا بمُواجهة أيّ مرشّح من "التيّار" للرئاسة، مع إتجاه غير مُعلن بعد لتبنّي ترشيح النائب فرنجية للرئاسة.

في الختام، إذا كان صحيحًا أنّ حقّ الإختلاف السياسي مَشروع، وحقّ التنافس الديمقراطي دليل تطوّر المُجتمعات وتحضّرها، فإنّ الأصحّ أنّ التشرذم السياسي العبثي، والتهجّم الإعلامي الحاقد، والسعي الشرس والمُتبادل لإلغاء الآخر، لن يُسفر سوى عن مزيد من اليأس في الجسم المسيحي، بشكل يُهدّد جديًا مصير المسيحيّين في لبنان، ما يعني تهديد مصير التركيبة اللبنانيّة ككلّ، لأنّ لبنان من دون مسيحيّيه هو عبارة عن كيان آخر لا يُشبه بشيء هويّة الوطن الذي قام منذ قرابة عقد من الزمن!.