قد يكون "تداخل" الوساطات وتقاطعها، في الظروف العاديّة، أمراً مُجدياً ومفيداً، فهو يعني بالدرجة الأولى أنّ هناك "حركة"، لا شكّ تحمل بين طيّاتها "بركة"، وأنّ هناك سعاة خيرٍ يبحثون عن إيجاد حَلّ أو مَخرَجٍ للأزمة، بمعزَلٍ عن حجمها وشكلها.

لكن، على صعيد ​الأزمة​ الحكوميّة اللبنانيّة المستمرّة منذ أشهر، والمتوارثة منذ سنواتٍ طويلة إلى حدٍّ بعيد، قد لا يكون في مثل هذا "التداخل" أيّ إشاراتٍ إيجابيّة، أبعد من محاولة تسجيل "الوسطاء" لحضورهم على الساحة، والإيحاء بأنّهم يبذلون ما يستطيعون من جهودٍ وطاقة، إن وُجِدت، ولو أنّ "ما باليد حيلة".

هكذا، تناوب "الوسطاء" على الإمساك بالملفّ الحكوميّ خلال أسابيع قليلة، سواء ممّن لهم باعٌ طويلٌ في المجال، كرئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ والمدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​، أو من "الوافدين الجُدُد" كرئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ حسّان دياب، وبينهم ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ وغيره.

وحتى "تكتمل" القصّة، انضمّ "​حزب الله​" في الأيام الماضية إلى "سُعاة الخير"، ولكن بمهمّةٍ "متواضعة" وفق التسريبات، تقتصر على "بناء الثقة"، أو أقلّ من ذلك، "كسر الجليد" بين ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ ورئيس ​الحكومة​ المكلَّف ​سعد الحريري​، لعلّهما يوافقان على مجرّد عقد اجتماعٍ ثنائيّ جديد في ​قصر بعبدا​.

حائط مسدود

قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ كلّ الوساطات التي نشطت على خطّ الحكومة المقطوع على ما يبدو، والمُقفَل حتى إشعارٍ آخر، "تضامناً" ربما مع البلد المُغلَق بفعل تفشّي ​فيروس كورونا​ بشكلٍ "جنونيّ" في أرجائه، مُنيت بالفشل، أو بالحدّ الأدنى، اصطدمت جميعها بحائطٍ مسدود، لن يكون "ترميمه" أمراً يسيراً وفق المعطيات المتوافرة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، بدا واضحاً أنّ مبادرة رئيس حكومة تصريف الأعمال، الأسبوع الماضي، انتهت قبل أن تبدأ، إذ لم تؤدِّ إلى أيّ تغييرٍ يُذكَر على الأرض، علماً أنّ معظم الباحثين وضعوها في خانة بحث دياب عن دورٍ في المرحلة المقبلة، ومحاولته الاستفادة من المتغيّرات الداخلية والخارجية لحجز موقعٍ له في المعادلة، حتى بعد خروجه من ​السراي الحكومي​، إذا ما وُلدت ​الحكومة الجديدة​ في المدى المنظور.

أما المبادرة التي أخذت الصدى الأكبر إعلاميّاً، أي مبادرة البطريرك الراعي، فهي تبدو "عالقة" في مكانها منذ أواخر العام الماضي، بعدما نجح الرجل في ترتيب "لقاءٍ" بين عون والحريري، انتهى إلى "خواتيم غير سعيدة"، وأسهم في "تعقيد" الأزمة أكثر ممّا كانت "مُعقَّدة"، ولو أنّ كثُراً يعتبرون أنّ التجاوب الشكليّ الذي أبداه الطرفان مع مبادرته كان وهميّاً ومزيَّفاً، ولم يكن حقيقيّاً، بدليل ما أحاط بلقاء بعبدا الشهير من ملابساتٍ، فضلاً عن ردود الفعل التي ولّدها.

ومع أنّ البطريرك الراعي سعى إلى إعادة "تفعيل" مبادرته منذ مطلع العام، إلا أنّ الأجواء لم تَبدُ مشجّعة على الإطلاق، وهو ما أدّى إلى عدم نجاحه، حتى الآن، في ​تحقيق​ أيّ "اختراق" يمكن ​البناء​ عليه. ولا يبدو أنّ مبادرتي رئيس مجلس النواب والمدير العام للأمن العام أفضل حالاً، وإن حافظتا حتى ​الساعة​ على "السرية" المطلوبة، علماً أنّ بعض الأوساط تؤكد أنّ بري، مثلاً، سحب يده بالكامل، وأخذ "إجازةً" قد تطول على هذا الخطّ.

هل ينجح "حزب الله"؟

وسط هذه "المعمعة" من الوساطات، بدأ الحديث في الآونة الأخيرة عن مبادرةٍ لـ"حزب الله" على الخطّ الحكوميّ، بهدف تقريب وجهات النظر بين عون والحريري، علماً أنّ هناك من لم "يقصّر" في المرحلة الأخيرة في توجيه أصابع الاتهام للحزب مباشرةً بالعرقلة، باعتبار أنّه لو أراد ​تشكيل الحكومة​ فعلاً، لاستطاع فرضها، لا بالقوة، ولكن بما يملكه من "موْنة" على حلفائه.

ويعتبر كثيرون أنّ "حزب الله" ينبغي أن يكون "وسيطاً" طبيعيّاً على خطّ الحكومة، لو كان يرغب فعلاً ب​تأليف​ حكومة اليوم قبل الغد، كما يردّد مسؤولوه وقياديّوه، خصوصاً أنه يحافظ على "تموضعه" في المنطقة الوسط بين عون وبري، فهو حريصٌ على تحالفه مع الأول، ويرفض "التفريط" به، وفي الوقت نفسه، متمسّك بالحريري رئيسًا للحكومة، ويرفض "الانجرار" خلف دعوات اعتذاره، باعتبار أنّ لا مصلحة من ذلك، ولا سيما بعد تجربة حكومة حسّان دياب التي لا "يستسيغ" الحزب تكرارها اليوم.

ويقول معنيّون وعارفون إنّ الحزب كان يفكّر بالدخول على خطّ الحكومة فعلاً منذ فترة، ولكنه فضّل "التريّث" ليترك المجال للوساطات الأخرى، ولا سيّما وساطة البطريرك الماروني، لعلّها تنجح في تحقيق "الخرق المطلوب"، وحتى لا يُقال أنّه تعمّد "التشويش" عليها، بهدف "تعطيلها" ربما، أو حتى "التصويب" عليها، بشكلٍ أو بآخر، وهو لم يتحرّك إلا بعدما أدرك أنّ حظوظها باتت ضعيفة، بل شبه منعدمة.

إلا أن الحزب، وبعكس معظم المبادرات الأخرى، لا ينطلق في مسعاه، بحسب ما يقول العارفون، من "سقفٍ عالٍ"، حتى أنّه يرفض تصنيف جهده على أنّه "مبادرة أو وساطة"، بل يحصره في إطار محاولة "كسر الجليد" الذي بات ثقيلاً جدّاً، وشديد الوطأة سياسياً، بين عون والحريري، وهو يستند بشكل أساسي إلى زوال كل العوائق الخارجية التي كان يتذرّع بها البعض لتبرير المماطلة، ولو أنّ الحزب نفسه كان يصرّ على عدم واقعيّتها.

"الخير لقدّام"!

بين وساطات الراعي وبري ودياب وإبراهيم و"حزب الله"، يمكن الحديث عن جملة وساطات على خطّ الأزمة الحكوميّة المتفاقمة حتى الآن، فيما يبشّر البعض بالمزيد الآتي، وفق منطق "الخير لقدّام".

لكن، بعيداً عن تحليل مفهوم "الخير" في مثل هذه الأمور، ثمّة من يشير إلى "مفارقةٍ" مثيرة للجدل، تتمثّل في أنّ "هدف" معظم هذه المبادرات لا يتعدّى "جمع" رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف في قاعةٍ واحدة.

باختصار، تحوّل الاجتماع الذي يفترض أن يكون من البديهيّات، بمُعزَلٍ عن أيّ ​تفاصيل​ أو معوّقات سياسيّة أو لوجستيّة، والذي لا ينبغي أن يكون موضِع أخذٍ وردّ أساساً، إلى أمر "تعجيزيّ"، يبحث الوُسطاء أن يسجّلوا "إنجازه" باسمهم، وكأنّه "بطولة".

يحدث ذلك في بلدٍ ينازع "الانهيار" الذي بات في قلبه، ويصارع "جهنّم" التي يبدو أنّه غرق في داخلها، ويقاوم لمجرّد البقاء، فيما مسؤولوه الذين يدّعون العمل لتشكيل حكومةٍ توصَف بـ"الإنقاذية"، يلتهون بصراعاتٍ شخصيّة لا تنتهي...