تَحتفِلُ الكنيسةُ المُقدَّسةُ في الثّاني مِن شَهرِ شُباط بِعيدِ دُخولِ السَّيِّدِ إلى الهَيكَل. ويُدعى أيضًا عيدَ اللّقاء. إنَّهُ لِقاءُ نُبوءاتِ العَهدِ القَديمِ عن مَجيءِ المُخَلِّصِ بِمُتَمِّمِها يَسوعَ، والأَهمُ، لِقاءُ ​الإنسان​ِ بِاللهِ المُتَجَسِّد.

عِندمَا يُولَدُ طِفلٌ في عَائِلَةٍ مُؤمِنَة، يُعطَى لَهُ اسمُ قِدِّيسٍ كَشَفيعٍ لَهُ، ويُصبِحُ للمَولُودِ عيدُ مِيلادٍ جَديدِ، وَهُوَ عِيدُ هذا القِدِّيس. يُعمَّدُ الطِّفلُ على اسمِ الثَّالُوثِ القُدُّوس، أي يُغَطَّسُ ثَلاثًا ويُمَيرَنُ ويُناوَلُ القُدُسَات. ويَصيرُ عُضوًا في جَسَدِ المَسيحِ، ويَحمِلُهُ أهلُهُ مَعَهم إلى الكَنيسَةِ في الآحاد، والأَعيادِ السَّيِّدِيَّةِ وغيرِها.

مَنزِلُ الطِّفلِ غيرُ مَفصُولٍ عَنِ الكَنيسَةِ بَل هُوَ امتِدَادٌ لها. هُناكَ تُوجَدُ أيقُوناتٌ وفي غُرفَتِهِ أيضًا. ويَسمَعُ مِن نُعومَةِ أظافِرِه قِصصَ قِدِّيسِين، ويَتَغذَّى مِنَ الإنجِيلِ وينمُو علَيه.

يتعلَّمُ أن يُصَلّي قَبلَ أن يَنامَ، ويَرسُمُ إشارَةَ الصَّليبِ قَبلَ أن يَأكُل. يُشاهِدُ والِدَتَهُ "تُصَلِّبُ" على الطَّعامِ، تَذكُرُ اسمَ الرَّبِّ في خِلالِ يَومِيَّاتِ حَياتِها، كَذَلِكَ والِدُه.

يبدَأُ الوَلدُ بِسَماعِ اسمِ يَسوعَ، واسمِ وَالِدَةِ الإلَهِ، وأَسماءِ قِدِّيسِينَ آخَرِين. يَسمَعُ أَنَّ اليومَ عيدٌ، ويُشاهِدُ تَحضيراتِهِ في المَنزِل. زِينَةٌ، حُلوَياتٌ، ويَستَلِمُ الهَدايا في هَذِهِ المُناسَبات. يبدأُ تبادُلُ المعايَداتِ بينَ الأهلِ والأَقارِبِ والأَصحَابِ، وعِندَما يَكبُرُ قليلًا يُدرِكُ أنَّ هناك أيَّامَ صَومٍ، وهَكَذا دَوالَيك.

كُلُّ هذا يُوَلِّدُ في نَفسِ الطِّفلِ نُمُوًّا مِن نَوعٍ آخَرَ يُدخِلُهُ في عَالَمٍ مُختَلِفٍ عَنِ العَالَمِ المَادّي الدَّهرِي.

تُرى لَو سُمِحَ لَنا أن نُسَجِّلَ مُشارَكتَنا الأُولى في القُدَّاسِ الإلَهيّ فكيف تَكُون؟ لِنرى معًا.

يَدخُلُ الطِّفلُ الكَنيسةَ مَحمُولًا على يَدَي أهلِهِ، يُشاهِدُهُم يَقتَرِبُونَ مِنَ الأيقُونَةِ عِندَ المَدخَلِ، يُقَبِّلُونَها ويُضيئُون بِقُربِها شَمعةً يُثبِّتُونَها في التُّرابِ.

هذا تُرابٌ، ولكنّه ليس تُرابًا لِيلعَبَ بِهِ أو علَيه، بل هو تُرابٌ لِوُجهَةِ استِعمالٍ أُخرى. هو ليس تَحتَ أقدامِهِ على الأرض، بل هو في مَكانٍ عالٍ لا يستَطيعُ بُلوغَهُ إلّا مَحمُولًا، وعَليهِ شموعٌ مُضاءَة.

​​​​​​​

يَمُدُّ يَدَهُ لِيُشارِكَ في هَذهِ اللُّعبةِ الغَريبَة، ولكن «أح»، هُناكَ نارٌ تُحرِقُ، فيُساعِدُه أهلُهُ لتثبيتِ الشَّمعَةِ، ويَفرَح.

ويُكمِلُ مَعَ أهلِهِ دُخولَ الكَنيسة، فيتَّجِهونَ نَحو الإيقُونِسطاس (حامِلِ الإيقُونات)، المُتواجِدِ بينَ صَحنِ الكَنيسَةِ والهَيكَل، يُقَبِّلُونَ كُلَّ إيقُونَةٍ على حِدَةٍ، ويُدنُونَهُ منها، وهُم يَنحَنُونَ أمامَها رَاسِمينَ إشارَةَ الصَّليب. وبعد ذلك يتَوجَّهُونَ لِيأخُذوا مَقاعِدَهم، وتَبدأُ مرحَلَةٌ جَديدةٌ، والطِّفلُ يَسمَعُ ويُراقِب.

أُناسٌ يَدخُلونَ مِن كُلِّ الأَعمار، يُكرِّرونَ ما فَعلَهُ ذووه. أَصواتُ تَراتِيلَ ولَكن لا تُوجَدُ آلاتٌ مُوسيقِيَّة. هَذا أيضًا اكتِشافٌ جَديد. مَجموعَةٌ تَقِفُ وتَفتَحُ كُتُبًا، تَارَةً تَقرأ وتارَةً أُخرى تُرَنِّم.

«ها» هُناكَ شَخصٌ يَقِفُ أمامَ البَابِ المُلُوكِيّ في الوَسَطِ، ويَلبَسُ لِباسًا غَريبًا ومُختَلِفًا عَن كُلِّ الحَاضِرين، مَن هو يا تُرى؟.

ما الّذي يَحصُلُ؟ يُراقِبُه جَيِّدًا، هُوَ يَقُومُ بِحَرَكاتٍ غَريبَةٍ، يَخرُجُ مِن بَابٍ لِيَدخُلَ مِن آخَر.

أحيانًا يَتكلَّمُ بِصَوت عالٍ، وأحيانًا يُسمَعُ صَوتُه فقط في الكَنيسة، وأحيانًا يَسكُت. يَبدو أنَّهُ اللّاعبُ الأساسِيّ، هُوَ البَطَل.

إكتِشافٌ تِلوَ آخَر.

«واو» ما هَذا الشَّيءُ الّذي يَحمِلُهُ هَذا الشَّخصُ الّذي يَقِفُ في الوَسَط، ويُحَرِّكُهُ بِيَدِهِ اليُمنى صُعُودًا ونُزُولًا، فيُصدِرُ أصوَاتًا رَنّانَةً، ويَخرُجُ مِنهُ دُخان؟ إنَّها لعبةُ خشخشة كالّتي عندَهُ لكنّها أكبرُ وأجملُ ومُلفِتَةٌ للنَّظَر.

​​​​​​​

هذا الشَّخصُ يحمِلُ خشخشَتَه "المِبخَرة"، ويَقتَرِبُ مِن كُلِّ إنسانٍ مَوجُودٍ في الكَنيسَةِ، ويُحرِّكُها نَحوَه، ولا أَحَدَ يلمِسُها غَيرَه. لماذا يَلعَبُ وَحدَهُ؟ يَتمنَّى الطِّفلُ لَو يستَطيعُ هُوَ تَحريكَها.

ثُمَّ يَعودُ الرَّجُلُ -الكاهِنُ- إلى الهَيكَلِ مِن حَيثُ أتى، وثِيابُهُ تَتطايرُ خَلفَهُ كأنَّه يُحَلِّقُ، لِيعودَ فيَصرُخَ بعدَ قلِيلٍ بِصَوتٍ جَهوَرِي، ويَتأهَّبَ الجَميعُ، كأنَّهُ بِذَلِكَ يُعلِنُ عن بِدايةٍ هامَّة: "مُبارَكةٌ مَملكَةُ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُس...".

ويَبقى الكَاهنُ يُصلِّي ووجهُهُ إلى الشَّرقِ مِن حَيثُ تُشرِقُ الشَّمس، بِحيثُ يَدخُلُ نُورُها إلى الهَيكَلِ مِن نَافِذَةٍ عُلوِيَّةٍ وتُنيرُه.

الجَوُّ كلُّهُ أَصبحَ حَمَاسِيًّا، الجَميعُ يُشارِكُونَ، وأَهلُهُ تَارَة ًيَقِفُونَ وتَارَةً يَجلِسُون.

يَمُرُّ وَقتٌ فَيعُودُ لِيرى الكَاهِنَ يَخرُجُ مِن جَديدٍ إلى وَسَطِ الكنيسةِ حَامِلًا كِتابًا يَرفعُهُ عالِيًا، ويَتقدَّمُهُ أولادٌ يَحمِلُونَ رايَاتٍ وصَليب، ويَدورُونَ مَعَهُ ويَقِفُونَ عَن يَمِينِهِ وعن يَسارِهِ، فيَتَحَمَّسُ ويقُول: «أنا أيضًا أُريدُ أن أُشارِك».

مشاهِدُ جَميلَةٌ تَمُرُّ أمام عَينَي الطِّفلِ وتترَسَّخُ في ذاكِرَتِه.

وبعدَ بُرهَةٍ يَستدِيرُ الكَاهِنُ نَحو الشَّعبِ حَامِلًا الكِتابَ ذاتَهُ ويَقرأ بِصوتٍ عالٍ ويَخْطُبَ فِيهم.

وتُستأنَفُ الصَّلواتُ وَيعودُ الطِّفلُ لِيُشاهِدَ النَّاسَ واقِفِينَ يُصلُّونَ مَعًا. "هذِهِ الصَّلواتُ أعرِفُها"، يقُولُ في نَفسِهِ، "والِدَيَّ يُصلّيانِها عِندَ المَساءِ في المَنزل"، إنّها صَلاةُ الأبَانا ودُستُورُ الإيمان.

​​​​​​​

ومِن ثَمَّ يَحدُثُ شَيءٌ لافِتٌ، يَقِفُ الكاهِنُ مِن جَدِيدٍ حَامِلًا كَأسًا بِداخِلِهِ مِلعَقَةٌ ومُغَطّى بِفُوطَةٍ حَمراء.

يَقِفُ النَّاسُ في صَفٍّ مُنتَظِمٍ ويَتقَدَّمُونَ إليهِ في وَقارٍ شَديد، وهُوَ بِدَورِهِ يُناوِلُ بِالمِلعَقَةِ كُلَّ شَخصٍ بِمُفرَدِهِ، خُبزًا ونَبِيذًا. لا يُوجَدُ مِثلُ هَذا الكَأسِ في مَنزِلِه، يَقُولُ الطِّفل. إنَّهُ كبيرُ الحَجمِ وبَرَّاقٌ.

ها قَد أتى دَورُهُ مَحمُولًا على ذِراعِ أُمِّهِ، يَفتَحُ فَاهُ ويُناوِلُهُ الكاهِن. يَتذكَّرُ الطِّفلُ على الفَور: "إنّي أَعرِفُ هذا المَذاق، يومَ حملَني الكَاهِنُ وأَنزَلَني في المياه". طَبعًا إنّه يَتكَلَّمُ على معمُودِيَّتِه.

ويتذَكَّرُ الطِّفلُ، مُنذُ حَوالى السَّاعَةِ تَقريبًا، كيفَ اقتَرَبَ الجَميعُ مِنَ الكَاهِنِ وقَبَّلُوا الإنجيلَ الذي كان يَحمِلُه. وهَا الآنَ يَتقدَّمُونَ لِتناوُلِ القُدُسات. ما أجملَ هَذا التَّرابُطَ، نَتناوَلُ الكَلِمَةَ الإلَهِيَّةَ ونَعودَ لِنَتنَاوَلَ جَسدَ الرَّبِّ ودَمَهُ الكَريمَين.

بَعدها يَعُودُ الجَميعُ إلى مَقاعِدِهم، ويَرفعُ الكاهِنُ يَدَهُ ويُبارِكُهُم ويَرجِعُونَ جميعُهُم إلى بُيوتِهِم فَرِحِين.

في الحقيقةِ ما شَاهَدَهُ الوَلَدُ وعَاشَهُ هُوَ عَملٌ مُتواصِلٌ يَقومُ بِهِ المُؤمِنُونَ، وهَذا تَمامًا تَفسيرُ كَلِمَةِ لِيتُورجِية "عمل الشّعب".

وهكذا يَلتَقي المَولُودُ الجَديدُ بإلَهِهِ ومُخَلِّصِهِ ويفرَحُ بِهِ ويمتلئُ سَلامًا ونُورًا، تمامًا كما التَقَى سِمعانُ الشَّيخُ بِالطِّفلِ الإلَهيِّ وهلَّلَ فَرِحًا مُعلِنًا: "إنّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ". آمين.​​​​​​​