في كل مرة تنطلق فيها تحركات شعبية في أي منطقة من المناطق ال​لبنان​ية، يبدأ الحديث من قبل أركان الطبقة السياسية عن الجهات، المحلية أو الخارجية، التي تحرك المواطنين لأهداف مشبوهة، خصوصاً إذا ما أخذت هذه التحركات الطابع العنفي، متجاهلين بشكل مطلق وجود أسباب حقيقية وراء تحرك المواطنين، تتطلب معالجتها كي لا يكونوا عرضة للإستغلال من قبل أي جهة.

هذا ما حصل فعلياً عند إنطلاق التحركات الشعبيّة في الأيام الماضية، إحتجاجاً على الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة وقرار تمديد ​الإقفال​ العام من دون تقديم أيّ ​مساعدات​ لهم، حيث بدأت التحليلات والإتّهامات تنطلق، بشكل مباشر أو غير مباشر، من صراع رئيس ​الحكومة​ المكلّف ​سعد الحريري​ مع شقيقه ​بهاء الحريري​، إلى الرغبة في تبادل الرسائل المرتبطة بالملفّ الحكومي، وصولاً إلى الحديث عن صراع بين الأجهزة ​الأمن​يّة أو عن الدور التركي المستجدّ في لبنان أو تحرك بعض الخلايا الأمنيّة المرتبطة بتنظيم "داعش" الإرهابي.

كل ما تقدم من تحليلات قد يكون صحيحاً أو عبارة عن كلام في الهواء الهدف منه بثّ الخوف في نفوس المواطنين، لكنّ الأكيد أنّ أحداً من أركان تلك الطبقة لا يريد أن ينتقل الحديث إلى مسؤوليّته عمّا وصلت إليه الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة في البلاد، الأمر الذي دفع المواطنين إلى التحرّك أو فتح المجال أمام إستغلال أوجاعهم من قبل من يريد العبث بالأمن أو توجيه رسائل سياسية.

في الأيام الماضية، خرج الكثيرون للحديث عن أن ما يحصل في ​مدينة طرابلس​ تحديداً جريمة موصوفة، فهؤلاء يعتبرون أن أعمال الشغب في عاصمة ​الشمال​ جريمة لا تغتفر، لكن دورهم في أكثر من 20 جولة عنف دمرت إقتصادها أمر عادي، والأمر نفسه ينطبق على كل المشاريع الإنمائيّة التي تحتاج لها، فهي إلى جانب عكار و​بعلبك الهرمل​ ومختلف المناطق التي تصنف على أساس أنها من الأطراف، تستخدم كشعارات للحديث عن الحرمان من دون القيام بأي خطوة عملية بهدف رفعه.

حسناً، ما يحصل في عاصمة الشمال من أعمال شغب خرج عن الإطار المقبول في أي تحركات شعبية، الأمر الذي يوحي بدخول العديد من الجهات الراغبة في إستغلال أوجاع المواطنين على الخط، إلا أن ما يجب التنبه له هو أنّ الجرائم الفعلية هي تلك التي ارتكبت من قبل الطبقة السياسية على مدى سنوات طويلة، الأمر الذي من المفترض أن يدفعها إلى الخجل لا إلى إظهار الحرص المفرط، فهل نسيت إهمالها الذي أدّى إلى تدمير ​مرفأ بيروت​ والعديد من الأحياء السكنية المحيطة به لا إلى إحراق عدد من الأبنية؟.

أبعد من ذلك، ألا تظن تلك الطبقة أنّ عملية السطو التي حصلت على ​أموال المودعين​ في ​المصارف​ أو تدمير قدراتهم الشرائيّة بعد خسارة العملة الوطنية قيمتها هو أيضاً جريمة؟ ماذا عن صراعها على المغانم والحصص الذي عطل ويعطل ​الحياة​ السياسية في البلاد ويزيد من عمق ​الأزمة​ التي تمر بها؟ ماذا عن جرائم الفساد التي تتنافس في توزيع الإتّهامات بالمسؤولية عنها من دون أن يصل أيّ ملف إلى أيّ نتيجة تذكر؟ ماذا عن كل الواقع الصعب الذي يعاني منه المواطنون من مختلف المذاهب والمناطق يومياً؟.

في الختام، قد يكون من المفيد أن يتذكر أركان الطبقة السياسية، على الأقل منذ العام 2005 حتى اليوم، عدد المرات التي وضعوا فيها المواطنين بمواجهة بعضهم البعض، بعد أن حوّلوا الأحياء السكنيّة إلى ساحات معارك من أجل زيادة مكاسبهم في ​السلطة​، تحت عناوين مذهبية وطائفية، بعد توزيع الأسلحة الحربيّة من مختلف الأنواع عليهم، ليدركوا أنّ كلّ ما يحصل هو أساليب قاموا هم أنفسهم بتكريسها.