لا يختلف إثنان على أنّ منطقة ​الشرق الأوسط​ ككلّ هي على موعد مع بداية مرحلة من التحوّلات الكبرى، بدءًا من الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، أي بمجرّد قيام إدارة الرئيس الأميركي المُنتخب ​جو بايدن​ بإعادة تحريك الملفّات المَفتوحة، من الإتفاق النووي مع ​إيران​، مُرورًا بالوجود الأميركي في ​العراق​ و​سوريا​، وُصولاً إلى مُستقبل العلاقات العربيّة ال​إسرائيل​يّة والفلسطينيّة الإسرائيليّة، من دون أن ننسى إرتدادات الوضع في ​اليمن​ على العلاقة الأميركيّة–الخليجيّة، وإرتدادات الوضع في ​لبنان​، وبالتحديد نُفوذ "​حزب الله​" فيه، على ​الأمن​ الإستراتيجي لإسرائيل، ​الدولة​ الحليفة تاريخيًا ل​أميركا​ في المنطقة. فماذا في التفاصيل؟.

لا شكّ أنّ المِلفّ الأهم والأصعب والأكثر تأثيرًا على كامل منطقة الشرق الأوسط هو الملفّ الإيراني، مع الإشارة إلى أنّ إيران أكّدت أخيرًا رفض العودة للتفاوض بشأن برنامجها النووي، وطالبت ​واشنطن​ والعواصم الغربيّة بإحترام الإتفاق الذي كان قائمًا معها، وبإعادة تطبيقه كما هو، من دون إضافة أي بند جديد. يُذكر أنّ إيران كانت بدأت منذ إنسحاب واشنطن من الإتفاق في العام 2018، بإعادة تخصيب اليورانيوم بحدود أعلى من تلك المُحدّدة لها في الإتفاق المَذكور، وهي حرصت أخيرًا على تسليط ​الضوء​ على هذا الأمر، في إطار التفاوض الساخن المُنتظر مع واشنطن خلال المرحلة المُقبلة، حيث تُحاول ​طهران​ تطبيق مبدأ رفع سقف المطالب، تمهيدًا للإيحاء بتقديم تنازلات غير موجودة أصلاً، عند إنطلاق المُفاوضات الجدّية.

وفي مُقابل الرغبة الإيرانيّة الشديدة بالعودة إلى تطبيق الإتفاق بدون أيّ تعديلات، كونه يصبّ في مصلحتها تمامًا، تضغط إسرائيل في إتجاه أن تكون أي عودة أميركيّة غربيّة إلى الإتفاق، مَربوطة ببند إضافي يشمل ال​صواريخ​ الإيرانيّة المتوسطة والبعيدة المدى، وتلك الدقيقة، لأنّ ​الصواريخ​ التي تُطلق في إتجاه ​السعودية​ حاليًا يُمكن أن توجّه إلى إسرائيل في المُستقبل. من جهة أخرى، تريد كل من السُعوديّة ودولة ​الإمارات​ أن يبقى الضغط الذي كان مُمارسًا على إيران خلال عهد الرئيس السابق ​دونالد ترامب​، قائمًا، للحدّ من الإنفلاش السياسي والأمني الإيراني في المنطقة ككلّ، والذي بات يُهدّد جديًا أمن ​دول الخليج​. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ الذي دخل على خط هذا الملف، عبر سلسلة من التصاريح الإعلاميّة، ناقش الموضوع في إتصال هاتفي مع نظيره الأميركي منذ نحو أسبوع، وهو حاليًا يضغط لإدخال أطراف خليجيّة إلى أيّ جولة مفاوضات جديدة، لكن إيران ترفض كليًا هذا الأمر، وهي ترفض أساسًا أي عودة للتفاوض، كونها تعتبر أنّ الإتفاق موجود وقائم.

وفي كلّ الأحوال، إنّ إدارة الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن لا تريد منح إيران ورقة مجانيّة ومن دون أي مقابل، من خلال رفع العُقوبات عنها في مقابل الإكتفاء بالعودة إلى الإتفاق النووي فقط لا غير، علمًا أنّ أولويّاتها تختلف عن أولويّات كل من إسرائيل والدول الخليجيّة. لذلك من المُتوقّع أن تحمل واشنطن في المُستقبل غير البعيد، ملف الإتفاق النووي كورقة تفاوض مهمّة بيدها، على أن ترفعها بوجه أكثر من جهة إقليميّة، لإعادة رسم خريطة الأوضاع في المنطقة وفق المصالح الأميركيّة. ولا شكّ أن ورقة الملف النووي ستستخدم أميركيًا للضغط على دول الخليج، لوقف الحرب في اليمن، وللضغط على إيران للإنسحاب من سوريا، وللضغط على أكثر من طرف لإعادة ترتيب الوضع في العراق، إلخ.

بالإنتقال إلى لبنان، وعلى الرغم من أنّه ليس مُدرجًا إطلاقًا على أولويّات إدارة الرئيس الأميركي الجديد، أي لا إهتمام بوضعه الداخلي، تُوجد مُتابعة غير مُباشرة لتطوّرات الساحة اللبنانيّة، إنطلاقًا من تأثير الوضع في لبنان على إسرائيل، حيث يبقى كلّ من ملف ​ترسيم الحدود​ ومسألة صواريخ "حزب الله"، تحت المُراقبة الأميركيّة، علمًا أنّ واشنطن ماضية في دعم ​الجيش اللبناني​ حفاظًا على الإستقرار الداخلي. وطبعًا المُتابعة الأميركيّة غير المباشرة للبنان، تشمل ملفّي ​اللاجئين​ الفلسطينيّين، و​النازحين​ السُوريّين، لكن من باب ملف التسوية المُنتظرة للحرب في سوريا، ومُحاولات توسيع ​حالات​ التطبيع العربي–الإسرائيلي، وُصولاً إلى مساعي طيّ صفحة القضيّة الفلسطينيّة في المُستقبل.

وعلى خطّ مُواز، وفي الوقت الذي نشهد فيه مُحاولات فرنسيّة لإخراج لبنان من دائرة التجاذبات الإقليميّة، ولتأمين الدعم المادي السريع له، منعًا لحُصول الإنهيار الشامل، لا تزال بعض القوى السياسيّة الداخليّة غير مُدركة لحجم المخاطر، وتتصرّف وكأن كلّ الأمور تحت السيطرة، على الرغم من أنّ أحداث الشغب الأخيرة في ​طرابلس​، أظهرت هشاشة الوضع، خاصة مع دخول أجهزة إستخباريّة على الخطّ، علمًا أنّ ما حصل يُمكن أن يتكرّر ويتمدّد إلى مناطق أخرى في لبنان، بسبب تفشّي حالات ​الفقر​ والعوز، وبالتالي سُهولة إستغلال وجع الناس ونقمتهم على السُلطة، لحرف أيّ تحرّكات مطلبيّة عن وجهتها، ولركوبها من قبل جهات حزبيّة أو إستخباريّة أجنبيّة، بهدف تنفيذ أجندات مَشبوهة في لبنان، وسط التحوّلات الإقليميّة الكبرى التي تهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة ككلّ. والرئيس الفرنسي الذي كان قد تواصل هاتفيًا الأسبوع الماضي، مع نظيره اللبناني العماد ​ميشال عون​، جدّد المُطالبة بضرورة الدفع قُدمًا نحو تشكيل حكومة في لبنان، لكنّ التراشق الإعلامي بين كلّ من تيّاري "الوطني الحُرّ" و"المُستقبل" لا يُوحي بأنّ طريق التسوية–وفق المُبادرة الفرنسيّة المَعروفة، سالكًا، حيث يتمّ تفسير هذا الحلّ المُفترض وفق أكثر من منظار مُتضارب!.

في الخُلاصة، المنطقة مُقبلة على ما يُمكن وصفه بالتفاوض على صفيح ساخن... من إيران إلى لبنان، وما لم يتمّ تحصين ساحتنا الداخليّة، فإنّ لبنان سيكون الحلقة الأضعف في عمليّة التفاوض، وعندها سيكون من السهل أن تأتي التسويات الإقليميّة على حسابنا!.