لم يعتدْ رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ أن يُصدِر بياناتٍ باسمه الشخصيّ إلا في محطّاتٍ "نادرة"، فهو يكتفي بخطاباتٍ "مجدوَلة" سلفًا، في بعض المناسبات الوطنيّة أو "الحركيّة"، معطوفةً على تسريباتٍ صحافيّة دوريّة تُنسَب عادةً إلى "زوّار ​عين التينة​".

لكنّ بري "غرّد" هذا الأسبوع بعكس "عادته"، فخرج ببيانٍ مكتوب، سعى من خلاله إلى "تبرير" صمته الذي طال حكوميًا، وتوضيح خلفيّات عدم قيامه بأيّ تحرّكاتٍ بغاية رأب الصدع كما جرت العادة أيضًا، مفصّلاً ما قال إنّه "اقتراح" قدّمه للخروج من المأزق الحكوميّ.

وإذا كان اقتراح بري، القائم على فكرة اختيار وزراء "لا معنا ولا ضدّنا"، تعطّل عند مقاربة "الثلث المعطّل"، على حدّ ما قال في بيانه، فإنّ هناك من ذهب بعيدًا في اعتبار ما خرج به بمثابة "مبادرة"، وسط علامات استفهام عمّا إذا كان المعنيّون سيتلقّفونها عمليًّا.

إلا أنّ ردود الفعل الأولية لم توحِ بمثل هذا التوجّه، حتى أنّ بيان برّي أضيف إلى "بازار" الخلافات، فاعتبره المحسوبون على رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ بمثابة "شهادة" للأخير، فيما رأى "العونيّون" أنّه "يُدين" الحريري أولاً وأخيرًا!

عناوين قديمة-جديدة

مع أنّ بيان برّي بدا، في الظاهر، إعلان "عجزٍ" عن تقريب وجهات النظر، بسبب مقاربة "الثلث المعطّل"، والإيحاء بوجود إصرارٍ عليه، إلا أنّ هناك في الدوائر القريبة من "الأستاذ" من أصرّ على اعتبار كلامه بمثابة "مبادرة"، حتى أنّ المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى لم يتردّد في "الإشادة" بها، ومطالبة السياسيّين بدعمها، "حفظًا للوطن، وصونًا للاستقرار".

لكن، في مقابل هذا الترحيب الذي قد يبدو في مكانٍ مُبالَغًا به، ثمّة من طرح علامات استفهام عن "الجديد" الذي يمكن أن ينطوي عليه بيان برّي، خصوصًا أنّ العناوين التي قام عليها اقتراحه لا تعبّر عن مقارباتٍ مختلفةٍ عمّا كان سائدًا منذ اليوم الأول، وإن استثمرت "اللغة العربية الإنشائيّة" في سبيل "تجديد" بعض المصطلحات، في الصياغة فقط لا غير.

ويشير هؤلاء إلى أنّ اقتراح بري، وفق ما ورد في بيانه، يقوم على قاعدة اختيار أشخاص "لا معنا ولا ضدّنا"، وهو ما يتلاقى عمليًا مع ما يقوله منذ اليوم الأول رئيس الحكومة المكلَّف، الذي سبق أن دعا الأحزاب السياسية إلى "التنحّي" جانبًا"، لصالح "اختصاصيّين من أصحاب الكفاءة"، مع حرصه الدائم على أن لا يكون بين هؤلاء من "يستفزّ" أيّ فريق.

أما حديث بري عن "الثلث المعطّل"، والذي استوجب ردًّا سريعًا من ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، باعتبار أنّ الاتهام كان يستهدفه بوضوح، ولو "تعمّد" بري عدم الدخول في التسميات، فهو الآخر ليس بجديد، ويكرّره رئيس الحكومة المكلَّف أيضًا منذ أسابيع طويلة، سواء بلسانه أو عبر مصادره، علمًا أنّ البيان "الرئاسيّ" تعمّد التذكير بأنّ هذا النفي تكرّر عشرات المرّات.

ولعلّ ما بدا "ناقصًا" في اقتراح بري، حاجبًا عنه صفة "المبادرة" بمعناها الحرفيّ والكامل، تمثّل في أنّه "غيّب" لبّ الموضوع عن متنه، والمرتبط بإشكاليّة العلاقة بين عون والحريري، ومفهوم "الشراكة" في التأليف، علمًا أنّ معظم القراءات وضعت برّي في صفّ "الشيخ سعد"، وأوحت بوجود امتعاضٍ لديه ممّا يعتبره "انتهاكًا للدستور"، باسم هذه الشراكة.

هل من حظوظ؟

رغم كلّ ما سبق، وحتى لو كانت "مبادرة" بري مجرّد كلامٍ إنشائيّ يعيد "صياغة" كلّ ما سبق من طروح في قالبٍ جديد، ثمّة من يعتبر أنّ مجرّد الخروج بها إلى العَلَن قد يكون مُجديًا، خصوصًا أنّ حلّ المأزق الحكوميّ، عاجلاً أم آجلاً، لن يأتي بوصفةٍ "سحريّة"، بل لا بدّ أن ينبثق من العناوين نفسها، في إطار "تسويةٍ" ما على طريقة "الإخراج" المُثلى لها.

وثمّة من يعزّز وجهة النظر هذه، استنادًا إلى "التوقيت" الذي أطلق فيه بري طرحه، والذي تزامن مع جهود "إنعاش" المبادرة الفرنسيّة الساعية إلى الحلّ في ​لبنان​، وعودة الحديث عنها بعد فترةٍ من الانقطاع "القسريّ"، من جانب الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ الذي بدأ ما يشبه التمهيدلزيارةٍ ثالثة مفترضة إلى لبنان، بعدما اعتقد كثيرون أنّها ألغيت من "الأجندة".

قد يكون ما سبق ممكنًا ومُتاحًا، في القراءة السياسيّة الآنيّة، إلا أنّ رصد ردود الفعل الأوليّة على كلام برّي لا يوحي بشيءٍ من هذا القبيل، علمًا أنّ التفسير الأكثر واقعيّة لبيانه بدا في "الاتجاه المعاكس" تمامًا، في ظلّ رأيٍ يحتمل الكثير من الصواب، يقول إنّ بري لم يضع مبادرةً جديدةً على الطاولة، بقدر ما أراد "تبرئة ذمّته" أمام الجميع، والقول إنّه اجتهد ولم ينجح.

ومع أنّ بري حرص في بيانه على القول إنّه "لم ييأس وسيتابع"، يضع الكثير من المتابعين كلامه في إطار "سحب اليد" من الملفّ الحكوميّ، معتبرين أنّ الرجل ما كان ليقول ما قاله، لو أنّه شعر أنّ جهوده تلقى التجاوب المطلوب من قِبَل الأطراف المعنيّة، علمًا أنّ هناك من اعتبر بيانه "ردًا" على إفشال هذه الجهود وإحباطها بالضربة القاضية.

وقد تكون ردود الفعل على كلام "الأستاذ" خير معبّرٍ عن "صوابيّة" مثل هذا الاستنتاج، خصوصًا أنّ رئيس مجلس النواب لم يخرج فقط عن "صمته"، بل أيضًا عن "حياده"، أقلّه وفقًا لوجهة النظر "العونيّة"، التي لا تتردّد في اعتبار ما صدر عن برّي محاولة "تضامن" مع "صديقه"، ولو أنّهم يعتقدون أنّ "السحر انقلب على الساحر"، حيث تمّ "حشر" الحريري و"إحراجه".

هل من يعقل ويتّعظ؟!

يمكن أن يُفسَّر بيان بري من اتّجاهيْن نقيضيْن، فهو لا شكّ يعلن في جانبٍ أساسيّ منه، فشل جهودٍ أوحى بأنه كان يقودها من خلف الكواليس، لتقريب وجهات النظر حكوميًّا، لكنّها اصطدمت بحائطٍ مسدود نتيجة الإصرار على "الثلث المعطّل".

لكنّه، في المقابل، يمكن أن يترك "فسحة" للتحرّك في محاولةٍ لرأب الصدع من جديد، من بوابة اقتراح برّي الذي اعتبر صاحبه أنّه "يُنصِف الجميع"، إذا ما وُجِد من "يعقل ويتّعظ"، وفق ما ورد حرفيًا في بيان رئيس مجلس النواب أيضًا.

إلا أنّ مثل هذه "الليونة" قد تصطدم أيضًا باتهامات برّي الواضحة، ولو من دون تسمية، والتي يمكن أن "تعمّق" ​الأزمة​ الحكوميّة، وتوسيع "الجبهات" على خطّها، ليُضاف الخلاف القديم-الجديد بين بري و"العهد"، إلى "البازار" الذي لا ينتهي.

وبالاستعارة من برّي، قد يصحّ عمليًا التساؤل "هل من يعقل ويتّعظ"، لكن في اتجاهٍ مغاير، فهل من يعقل ويتّعظ من واقعٍ مُرّ أثبت أنّ نظام ​المحاصصة​، ولو على طريقة "لا معنا ولا ضدّنا"، أثبت عقمه، وأنّ المطلوب تغيير جذري في المقاربة، إذا ما كان مشروع "الإنقاذ" جدّيًا؟!.