"الفاجر بياكُل مال التّاجر". هذا مَثَلٌ شَعبيٌّ شائع، ويُستَعملُ للدَّلالَةِ على غَلَبةِ الفُجُورِعلى حُقوقِ التَّاجِر، إذ يبدَأُ الفاجِرُ بِالصُّراخِ لِيَتهرَّبَ مِن دفعِ ما يَتوجَّبُ عَلَيهِ للتَّاجرِ، فيخرُجُ الأخيرُ مِنَ المَعركةِ مَهزومًا ومَسلُوبًا.

الفُجورُ هو الزَّيغَانُ عَنِ الحَق. والحَقُّ في كِتابِنا وإيمانِنا هُوَ المَسيحُ الّذي قالَ عن نفسِه: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يوحنا ٦:١٤).

اللهُ خَلَقَ الإنسانَ لِيَكُونَ ابنًا للمَلَكُوتِ إن جَاهَدَ وسَعى نَحو الحَقّ. هذا السَّعيُ يُسمّيهِ القِدّيسُ "سيرافيم ساروفسكي" (١٧٥٤-١٨٣٣م): "التِّجارةَ للمَلَكُوت". فَكلُّ واحِدٍ مِنَّا خُلِقَ ليكونَ تَاجِرًا مَاهِرًا لاكتِسابِ الفَضائِل، والرِّبحُ هو اقتِناءُ الرُّوحِ القُدُس. هذا هُوَ هَدفُ المُؤمِنِ حتّى الرَّمَقِ الأخيرِ مِن حَياتِه.

تُرى مَن هُوَ فاجرُنا إذا صَحَّ التَّعبير؟ ومَن هُوَ الّذي يَعتَرِضُ دَربَنا ويَسلِبُنا القَداسَة؟ في الوَاقِعِ هُو الشَّيطانُ، ولَكن ليس وحدَهُ بل بِمُساعَدَتِنا.

وهُنا يَسقُطُ المَثلُ الشَّعبيّ المَذكُورُ أعلاه، لأنَّ إبليسَ ليس أَقوى مِنَّا على الإطلاق، إن كُنّا حَقًّا مُلتَصِقينَ بِالمَسيح. ولا يَقدِرُ حتّى أن يَحرِمَنا جِهادَنا نحوَ القَداسةِ إن لم نَفتَحْ لَهُ البَاب، ولكن إن تَراخَينا وَأَدَرنَا ظَهْرَنا للنُّورِ الّذي هُوَ المَسيحُ، عندئذٍ يُصبِحُ أقوى.

نَحنُ نَقولُ في صَلاةِ الأبانا "نَجِّنا مِنَ الشِّرير". هكذا عَلَّمَنا الرَّبُّ تِلاوَتَها. وطَلبُ النَّجاةِ هذا مُوَجَّهٌ إلى المَسيح.

الشِّريرُ في اللُّغةِ اليُونانِيَّةِ شَخصٌ وليس فِكرَةً ponērou، ومِنَ الشِّريرِ يَصدُرُ الشَّرُّ. واستِطرادًا، يَجبُ أن نَقولَ في الفَرنسِيَّةِ Le malin وليس Le mal، وفي الإنكليزيّة The evil one وليس The evil.

عَدُوُّ الإنسانِ هذا هُوَ الزَّائغُ الأَوّلُ عَنِ الحَقّ، ولا ينفَكُّ يُحاولُ أن يَجُرَّنَا إلى مَهالِكِه، فنخسَرُ في تِجارَتِنا الإلَهِيَّةِ لِنُفلِسَ ونُصبِحَ مِن أهلِ جَهنَّم، قَابِعينَ في ظُلمَةٍ وعَذابٍ واضطِّرابٍ لا يَنتهي، فَاقِدِينَ السَّلامَ الدَّاخِلِيَّ، عِوضَ أن نَرتَقيَ السُّلَّمَ الإلهيَّ ونَرتَفِعَ بِالفَضائِلِ، ونُشِعَّ نُورًا مِنَ النُّورِ الّذي لا يَعرُوهُ مَساء.

مِن هُنا قَالَ لنا الرَّبُّ: "أَنا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا"(يوحنا ٥:١٥).

مِنَ البِدايَةِ كانَ القِدِّيسُونَ تُجّارًا مَاهِرينَ جدًّا. تَاجَرُوا مَعَ الرَّبِّ بِثِقَةٍ لا تَتزَعزعُ، وثَبَاتٍ كَبيرٍ، وتَواضُعٍ أقصى، وإفراغٍ للذَّات. وسِيَرُ حياتِهِم وجِهادِهُمُ الدَّؤوبُ خيرُ مِثالٍ حَيٍّ لَنا. لقد جَدُّوا في البَحثِ عن اللآلئِ ووَجدُوها. القِدّيسُ مَكاريوسُ المِصريّ (٣٠٠-٣٩١م) مثلًا، يتكَلَّمُ على اكتسابِ "اللّؤلُؤةِ السَّماوِيَّة"، الّتي هيَ صُورةٌ عَنِ النُّورِ الإلَهِيّ، والّتي هيَ المَلكوتُ السَّماوِيّ.

ونَجدُ عِندَ القِدِّيسِ "افغاريوس البُنطي" (٣٤٥-٣٩٩م)، في شَرحِهِ لِصَلاةِ "الأبانا": لِيأتِ الرُّوحُ القُدُس، مُرادِفَةٌ لـ"لِيأتِ مَلكوتُك"، إذ إنَّهُ يَعتَبِرُ الرُّوحَ القُدُسَ والمَلكوتَ واحِدًا.

بِالتَّأكِيدِ في التِّجارَةِ رِبحٌ وخَسارَة، وفي التِّجارَةِ الرُّوحِيَّةِ قِيامَةٌ وسُقُوطٌ، ولكِنَّ المُجاهِدَ الحَقيقِيَّ لا تُغلَقُ دفاتِرُهُ على إفلاس، لأنَّ عَدُوَّ الإنسانِ لا يَستطيعُ أن يغلِبَنا ما دُمنا "حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ"(أفسس ١٦:٦). وإن سَقَطْنا في جَولَةٍ، نَعودُ ونَقُومُ ونُصارِعُ مِن جَديدٍ، وننتَصِرُ ونَغلِبُ بِالمُنتَصِرِ والغَالِب.

نعم، هذا هُوَ شِعارُنا نَحنُ المَسيحِيِّينَ "ΙϹ ΧϹ ΝΙΚΑ"، ومعناهُ "يَسوعُ المَسيحُ المُنتَصِر".

تَضَعُ الكَنيسَةُ أمَامَنا في هَذا الأَحدِ مَثَلَ الوَزناتِ، ونَقرَأُهُ في إنجيلِ متّى (مت ١٤:٢٥-٣٠). هُوَ مِن أَمثَالِ المَلكُوتِ الّتي رَواهَا يَسوع. هُوَ أيضًا مَوجودٌ في إنجيلِ لُوقا، مَعَ بَعضِ الاختِلافَاتِ، ولَكِنَّ المَعنى نفسُه (لو١١:١٩-٢٧). هذا أمرٌ طَبيعيّ، فإنجِيلُنا ليسَ إملاءً ولا تَنزِيلًا، والمُنْزَل الوَحيدُ فيهِ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ الإلهُ المُتَجَسِّدُ لِخلاصِنا.

يَدورُ المَثلُ حَولَ رَجُلٍ عَالي الشَّأنِ، أَعطى عَبيدَهُ وَزَناتٍ وسَافَرَ. أعطى "وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ".

وعِندمَا عادَ إذ حانَ وقتُ الحِساب، وَجدَ أنَّ الأَوَّلَ تَاجَرَ بِوَزَناتِهِ ورَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ، والثَّاني رَبِحَ أَيْضًا وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، أمّا الثَّالثُ فَأخفَى وَزنَتَهُ في حُفرَةٍ فِي الأرْضِ، ولَم يُتاجِرْ بِها، وأَعادَها لِسَيِّدِهِ عِندَ عودَتِه.

هذا هُوَ حالُنا في الدّينُونَة. الوَزَناتُ هِيَ المَواهِبُ ونِعَمُ اللهِ عَلينا. فالّذي يُتاجِرُ بِها حَسَنًا يَربَحُ المَلكوتَ، ويُكافَأُ ويُزادُ لَهُ، ويَقومُ لِحياةٍ أَبَدِيَّةٍ مَعَ الرَّب، أمَّا مَن يُهمِلُها ويَرذُلُها ويَطمِرُها في التُّرابِ، يبقى في حُفرَتِهِ التُّرابِيَّةِ حَيثُ كانَ قلبُهُ وعقلُهُ وكُلُّ كَيانِه.

لا يَظُنَّن أحدٌ أنَّ التِّجارَةَ والرِّبحَ اللّذَين دَعانا إليهِما الرَّبُّ هُما دَعوةٌ فَردِيَّةٌ فَقَط، إنّما هما عَملٌ جَماعيٌّ ومَسؤولِيَّةٌ تُجاهَ الآخَر.

ولا يَستَهِنْ أحَدٌ بِنَفسِهِ، فكُلُّنا نَملِكُ مَواهِبَ لأنَّنا مَشروعُ الله. وكَلِمَةُ "عَبيد" المَذكُورَةُ في المَثَلِ الإنجيليّ أَعلاه، هي في أَصلِها العِبريّ Abodah/Abadوالمَقصُودُ بِها "أُناسٌ مخلُوقونَ لِلعِبادَةِ الإلهِيَّة" Le culte divin.

فالإنسانُ هُوَ Microthéos ، إلَهٌ صَغيرٌ لأنَّهُ ليسَ فقط تُرابِيًّا، بل كَائنٌ يُسَبِّحُ، "ليتُورجِيّ"، يَبحثُ عَنِ اللهِ ولا يَرتَاحُ إلّا فِيه.

فَكُلُّ ما يَفعَلُهُ الإنسانُ هُوَ في عُمقِهِ عَملٌ ثَالُوثِيّ: الإنسانُ ذَاتُهُ، واللهُ، والآخَر. فَبِقَدرِ ما نَمتَدُّ لِلآخَرِ تَكونُ تِجارَتُنا نَاجحةً، ونَزدادُ ارتفاعًا، وبِقَدرِ ما نَتقَوقَعُ في أَنانِيَّتِنا تَزدادُ حُفرتُنا عُمقًا. فإلى الرَّبِّ نَطلُب.