في الذكرى الـ 42 لانتصارها وفي الوقت الذي تفاخر فيه ​الثورة الإسلامية​ في ​إيران​ بإنجازاتها المميّزة والمتعدّدة العناوين من استراتيجية وسياسية وعلمية واقتصادية وعسكرية إلخ… فإنها تواجه تحديات هامة ليست مسألة الحرب الاقتصادية التي تشنّ عليها أو الحصار وال​عقوبات​ المرتبطة بالملف ​النووي الإيراني​ والاتفاق الدولي حولها أقلها.

لقد اختارت إيران منذ نجاح ثورتها وتوجّهها الى بناء ​الدولة​ المستقلة فعلياً، الدولة المتمتعة بحقوقها السياديّة واستثمار ثرواتها، اختارت العمل في بناء الذات وحشد الطاقات وعقد التحالفات التي تمكّنها من بناء القوة التي تمكنها من ممارسة استقلالها الحقيقيّ العمليّ بعيداً عن ​الاستقلال​ الشكليّ النظريّ الذي تعيشه معظم دول ​العالم​ خارج التكتلات الكبرى، وبالتالي كانت استراتيجيّة إيران قائمة بشكل رئيسيّ على فكرة الاستقلال الذي تحميه القوة الذاتية والتحالفية وتتمتع بالثروة وممارسة الحقوق السيادية.

وفي المقابل نظر الغرب الى النهج الاستقلالي الإيراني بأنه خروج عن «النظام الدولي» المفروض على العالم بعد الحرب العالمية الثانية والذي يقوم على فكرة «تحكم نادي المنتصرين في تلك الحرب» تحكّمه بمصير ومسار العالم ومنع دخول أعضاء جدد الى هذا النادي إلا من باب إحدى القوّتين العظميين وبعد أن تؤدّى مراسم الطاعة وتعتنق التبعية عقيدة في السلوك.

فالتباين بين إيران الثورة – الدولة المستقلة و​منظومة​ الغرب الاستعماري ناشئ من فكرة أساسية، هي سعي إيران لإقامة الدولة المستقلة القوية الممارسة حقوقها السيادية، ورفض نادي المنتصرين في الحرب الثانية لفكرة وجود قوة في العالم خارج سيطرته بعيداً عن قراره، ولهذا… ولأنّ إيران رفضت التبعية وتمسّكت باستقلالها وبحقوقها ومدّت اليد لمن استطاعت ان تساعده من المظلومين المعتدى عليهم في المنطقة والعالم، لأنها كذلك فقد اعتُدي عليها بحرب تدميرية لمدة 8 سنوات، ثم أتبعت ولا تزال عرضة لحرب اقتصادية وحصار مستمرّ يمارس بشكل تصاعدي وحشي الى حدّ أنه يطال الشعب في معظم حقوقه وصولاً الى الغذاء و​الدواء​.

إنّ الحرب والحصار الاقتصادي المنفذ بما تسمّيه ​أميركا​ «عقوبات»، ليس وليد ​الساعة​ وليس نتيجة دخول إيران المجال النوويّ ونجاحها في صنع منظومة الطرد المركزي المتقدّمة او تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% او قدرتها على التخصيب بنسب أعلى، انّ كلّ هذه العناوين والتفاصيل هي ذرائع تتوسّلها القوى الاستعارية لتبرّر حربها وحصارها لإيران، اما السبب الحقيقي للعدوان الغربي على إيران – الثورة الإسلامية فإنه يكمن في سعي إيران الى بناء الذات القوية المستقلة واستعدادها او سلوكها في نصرة المظلومين وعلى رأسهم الشعب ال​فلسطين​ي الذي سُلب وطنه على يد الكيان الصهيوني، ولذلك فإنّ ​سياسة

الغرب تقوم في مواجهة إيران على حرمانها من القوة ومصادرها، ما يمكن لاحقاً من نسف استقلالها وإعادتها الى ربقة التبعية للغرب الاستعماري كما يحول بينها وبين مساعدة من يريد العودة الى وطنه في فلسطين.

لقد أدركت إيران منذ البدء حقيقة مواقف الغرب حيالها وأهدافه واستراتيجياته المعتمدة ضدّها، وقرّرت الدفاع عن نفسها وعن مبادئها وعن شعبها والسير قدُماً ل​تحقيق​ الأهداف التي رمت اليها الثورة الإسلامية: الاستقلال، ممارسة الحقوق كافة، بناء القوة التي تمكن من حماية ذلك، واعتمدت استراتيجية دفاعية تحكمها قواعد «النفس الطويل» و«الصبر الاستراتيجي» و«الشجاعة في الموقف» من غير استفزاز أو تحدّ غير محسوب لا بل يقترب الى نوع من «الغموض البناء» الذي لا يوفر للخصم فرصة أو ذريعة للاعتداء.

في ظلّ هذه ​البيئة​ دخلت إيران المجال النوويّ واجتازت عتبة امتلاك التقنية معلنة سعيها لاستخدام هذه التقنية للأغراض المدنية والإنسانية السلمية، لكن الغرب وجد في الموضوع باباً وذريعة جديدة للقيام بمزيد من إجراءات الحصار والحرب الاقتصادية وفرض ما يسمّيه «العقوبات» لترويض إيران، مع التلويح بالعمل العسكري لتدمير ​البنى التحتية​ الإيرانية ليس في المجال النووي فحسب بل وفي كلّ مجال يمكن تدميره لمنع إيران من التطوّر والتقدّم.

لكن إيران في واقعها وتحالفاتها فاجأت الخصم والعدو، حيث إنها وبذكاء مميّز أفهمت الآخر أنها تملك من القوة العسكرية ما يمكنها من الدفاع عن النفس بالقدر الموثوق كما ويمكنها من الردّ العقابي والثأري على المعتدي الذي تشكل قواعده ومراكزه ومواقعه الاستراتيجية التي هي في متناول اليد النارية لإيران وتحت تأثير المنظومة الصاروخية تشكل أهدافاً مشروعة للردّ الدفاعي. وكانت إيران قد نجحت في تحضير نفسها للأمر وفي الإعلان عن ذلك حتى قبل أن تكشف عن المستوى الذي وصلت إليه في المجال النووي.

هذا الواقع منع الخصم والعدو لإيران من ارتكاب أيّ حماقة تذكر بما قامت به «إسرائيل» يوم دمّرت طائراتها مفاعل تموز العراقي ومرّ الأمر وكأنه لم يحصل، لكن إيران فرضت على الجميع معادلة ردع تحميها وتمنع من الاعتداء عليها وفرضت على الآخر الذهاب الى المفاوضات لبحث الموضوع.

إنّ الاتفاق الذي أفضت اليه مفاوضات 5+1 مع إيران حول ملفها النووي، والذي صادق عليه ​مجلس الأمن​ وحوّله وثيقة أممية شرعية، لم يكن ثمرة أخلاق وإنسانية مجموعة 5+1 ورغبتها بحلّ المسألة سلمياً، بل كان نتيجة عجز تلك المجموعة عن اللجوء الى القوة لعسكرية لمنع إيران من متابعة مشروعها النووي، ولهذا شكل الاتفاق حول الملف النووي مخرجاً للجميع، إيران احتفظت بحقها في السير في المسار النووي ضمن قيود تؤكد على طبيعته السلمية المدنية وتفكّ حزمة من عقوبات فرضت عليها بشكل كيدي إجرامي، والطرف الآخر يؤكد على «حق يدّعيه ويراه حقاً مكتسباً» بمنع أحد من دخول النادي النووي العسكري سواه.

لكن أميركا التي تعمل بسياسة منع إيران من الاستقلال والقوة ونصرة المظلوم، انقلبت على الاتفاق وقامت بأغرب سلوك يمكن ان يتصوّره أحد، سلوك مضمونه ان تستمرّ إيران بالوفاء بالتزاماتها في الاتفاق وأن تتنصل أميركا من كلّ ما التزمت به وان تبقي العقوبات لا بل تتشدّد فيها، وكان الردّ الإيراني الذكي بالتراجع المتدرج عن تلك الالتزامات، تراجع ترافق مع إظهار القوة العسكرية الدفاعية والقادرة على الدفاع عن النفس وجوداً ومصالح.

وظهر أنه وبصرف النظر عمن يسكن ​البيت الأبيض​ ​ترامب​ الخارج على الاتفاق ام ​بايدن​ الذي يوحي بأنه يريد العودة إليه بشروط، ان سياسة الطرفين الإيراني والأميركي باتت واضحة، إيران تريد ممارسة حق، وأميركا تريد الابتزاز ومنع إيران من ممارسة حقوقها وبصرف النظر عن عناوين تلك الحقوق، فلمن تكون الغالبة؟

لقد أجاب ​السيد علي الخامنئي​ بوضوح كلي على السؤال هذا، مظهراً انّ العالم دخل «مرحلة ما بعد أميركا» وعلى العاقل أن يفسّر وان يدرك أنّ رائد الصبر الاستدراجي في العالم غير مستعدّ للتراجع والتنازل أمام قوة دخلت مرحلة الأفول، فالإمبراطورية الأميركية كما قلنا في مقالة سابقة تتأهّب للزوال ويفوز من يشدّ ويُحكم قبضته على مصادر قوته وانْ تطلب الأمر تحمّل بعض الألم وهو ينتظر النصر الأكبر، وعلى بايدن أن يعرف انّ إيران تعتقد وتثق بأنها في نهاية المطاف هي المنتصرة وعليه ان لا يضيّع وقتاً في العودة للاتفاق النووي لأنّ التأخير لن يكون في مصلحته، وهو يعلم ان لا سبيل للحلّ إلا بالاتفاق هذا وليس متاحاً اليوم شيء سواه . فهل تكون السجالات الإعلامية اليوم عرضاً للقوة وتحضيراً للتفاوض لعودة أميركا الى ملف يدّعي بايدن بأنه يشكل أولوية لديه؟ ام النزعة الاستعمارية والتمسك بالعنجهية الأميركية والعداء ضدّ إيران سيطيح هذه الأولوية؟ إنها أسابيع قليلة ويأتي الجواب؟