على الرغم من انه كان معلوماً منذ اللحظة الاولى لتكليف النائب ​سعد الحريري​ ​تشكيل الحكومة​، ان المواجهة بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ستنتهي، كما المشاكل والملفات المعقدة في ​لبنان​، الى حصيلة لا غالب ولا مغلوب والى ضرورة التعايش الملزم بينهما رغم كل شيء. لا يمكن لاي من الرجلين القول بضمير مرتاح انه "انتصر" على الآخر، فما نشهده اليوم من تحركات واتصالات و"نهضة" دولية وعربية لحل الازمة اللبنانية، انما يفضي بالعودة الى قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" في كل المواضيع، ومنها بطبيعة الحال المواجهة بين عون والحريري. فبعدما فقدت الكيمياء بينهما بشكل كلي، بغض النظر عن الاسباب وعما يقال من وقوف احد وراءها، حاول عون الايحاء بالسر والعلن انه لن يتفاعل مع الحريري، وذهب نواب "​التيار الوطني الحر​" الى حد مطالبة رئيس الحكومة المكلّف بالاعتذار اذا ما استمر في عجزه عن التأليف. ويمكن القول ان هذا الطلب بات من الماضي وغير قابل للتحقيق، فالتحرك الذي قام به الحريري في الآونة الاخيرة، واستقباله من قبل الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ على طاولة عشاء لمدة ساعتين، اعطياه صكاً دولياً وعربياً بأنه باقٍ في ​رئاسة الحكومة​، وان استبداله غير مطروح، اياً كان الاسم البديل، وهو ما اعطى جرعة معنوية كبيرة كان بأمس الحاجة اليها. وعليه، فإن هذه "المعركة" قد خسرها عون، وبات يدرك انه اصبح لزاماً عليه التعايش مع الحريري، مع كل ما يعنيه ذلك من مواجهات مستقبلية على العديد من الامور، والتي من المتوقع ان تبقى، عند تشكيل الحكومة في وقت ما، تحت السقف المحدد دولياً والذي لن يمكن لاي منهما او طرف آخر خرقه، على الاقل خلال ما تبقى من ولاية عون، خصوصاً وان كل المؤشرات تدل على انه من المرجح ان تبقى الحكومة المقبلة حتى نهاية العهد.

هذه الخسارة، تقابلها خسارة اخرى انما هذه المرة للحريري، الذي وان بدا انه عزز مكانه وحضوره واستعاد صورته الاقليمية والدولية التي سبقت تحركات الشارع في 17 تشرين الاول من العام 2019، غير انه لم ينجح في توسيع نفوذه وتقديم تحالفاته على حساب معارضيه وفي مقدمهم عون. فالحكومة العتيدة تأخرت ولادتها، واذا كان صحيحاً ان عدم تشكيلها اساء كثيراً الى عون وعرّضه الى ضغوط كبيرة، فإنه صحيح ايضاً ان التأخر اضرّ بالحريري واظهره بمظهر العاجز امام مؤيّديه وشارع على أنّه غير قادر على تحقيق امر يعتبره من صلب مهامه، وافقده بعضاً من الزخم الذي عاد من خلاله عبر مساعي رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ وعدم ممانعة ​حزب الله​. اما الخسارة الاخرى المشتركة مع عون، فستكون حاضرة في المشاكل التي ستعترض كلاً منهما في الملفات والمواضيع الكبيرة والصغيرة التي ستبحثها الحكومة، لذلك يعمد الحريري الى تحصين نفسه في هذا السياق عبر نسج تحالفات وتعزيز الاتصالات مع الاحزاب والتيارات السياسية الرئيسية، مستغلاً هذه الفترة التي يعاني منها عون و"التيار الوطني الحر" من نقص في الحلفاء، وقد تكون حظوظ الحريري في هذا الشق اكبر بكثير، وربما يعمد الى اللجوء الى التصويت على امور لا تؤثر على الوضع العام للبلد، ولكنها تمعن في مكان ما في تقليص نفوذ عون والتيار الوطني الحر، وتحسّن صورته امام شارعه ومناصريه، ولعل الاتصال الذي اجراه برئيس ​الحزب الاشتراكي​ ​وليد جنبلاط​ من ​فرنسا​، يصب في هذه الخانة ولو انه اوحى بأنّ البحث انحصر فقط في مشكلة التمثيل الدرزي في الحكومة.

يحلو للبنانيين دائماً الدخول في معارك "لا غالب ولا مغلوب"، ولا يبدو انهم اتّعظوا من الماضي ولن يتعظوا في المستقبل ايضاً، فيسارعون الى ارضاء الخارج واعتباره بمثابة "انجاز" لهم كي يحافظوا على "كبريائهم" وصورتهم. فليسألوا انفهسم: أين الكبرياء والصورة في فرض الخارج حلوله عليهم؟.