«صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم

والنفس من خيرها في خير عافية والنفس من شرّها في مرتع وخم»

في حوار في تسعينات القرن العشرين مع أحد المقرّبين جداً من الرئيس الشهيد ​رفيق الحريري​، شرح صديقنا بإعجاب كبير فلسفة الرئيس في الإدارة و​السياسة​، مؤكّداً أنّ الرجل لا يمكن حصر اهتماماته بزواريب السياسة المحلية، فهو في الواقع صاحب رؤيا سيكون لها الأثر الكبير على ​لبنان​ و​العالم العربي​. لقد أكّد صديقنا أنّ رفيق الحريري ينطلق من مبدأ رفض الصراع وليّ الأذرع بأي شكل من الأشكال، حتى أنّ أقصى الاختلاف في الأفكار والمنطلقات بالنسبة له، يمكن حلّها من خلال الحوار المفتوح، شرط أن يكون المتحاورون في الأساس يسعون الى التسوية.

وفي السياق نفسه، أكّد صديقنا بأنّ منطق ​الثورة​ والانقلاب والحسم بالإكراه بالنسبة للحريري يُعتبر أعظم الشرور، حتى ولو كان الوضع القائم في غاية الشذوذ. فلسفة الحريري كانت تعتبر أنّ الثورة، وإن أدّت الى إنهاء عهد سابق وبغض النظر عن مساوئه، فإنّها لا تضمن التغيير الى الأحسن، كما أنّها تُدخل المجتمع في مرحلة غير محدّدة في الزمن من الاضطرابات و​العنف​ والتدهور ​الاقتصاد​ي والاجتماعي، مما يحتاج الى عقود من الجهود للإصلاح. قناعة رفيق الحريري هي ككل رجل أعمال ناجح، تعتمد على منطق التسويات بحيث «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم». يعني أنّ التسويات يجب أن تكون مبنية على حل وسط في المصالح بين طرفي الاتفاق، لا بل إنّه كان مؤمناً بأنّ الاتفاق والتسويات سيضاعفان في ​المستقبل​ فوائد الطرفين المتخاصمين في بداية الأمر. لذلك، فلا شيء بالضرورة هو شرّ مطلق أو خير مطلق، فكل شيء قابل للحوار إذا ما تخلّينا عن الأفكار المسبقة والعقائد الجامدة.

بالطبع، كان هذا المنطق في خلاف حاد مع التصنيفات التبسيطية للبشر والأفكار والعقائد والدول والألوان، في وقت كان العالم مقسوماً في شبابنا بين معسكرين: واحد يمثل الخير المطلق لمحازبيه والآخر، الشرّ المطلق، وطبعاً العكس بالعكس.

ونحن كنا كيساريين في مراهقتنا، نرى في الرأسمالي شيطاناً متقمصاً في شكل إنسان، حتى ولو كانت كل أعماله وأقواله تنضح بالخير والكرم. وكان الثوري اليساري قديساً، حتى ولو ارتكب الفظائع في حق البشر والحجر تحت مسمّى «العنف الثوري»، لأننا كنا نفترض أنّ الأهداف البعيدة هي من النبل بمكان مما يسوغ انتهاك الفضائل الإنسانية في سبيل بلوغها.

تصوروا يومها انّ ​مساعدات​ الحريري التعليمية والإنسانية كانت بعين البعض مجرد رشاوى للفقراء ومحاولة لمنع ​الشباب​ من «نيل شرف الشهادة» في سبيل نفس الأهداف النبيلة التي ذكرناها سابقاً.

بالمحصلة، فإنّ جهود رفيق الحريري استمرت لعشر سنوات للتسوية بين المتحاربين حتى قبلوا أخيراً ب​اتفاق الطائف​، تلك المعادلة المستحيلة التي أنهت حرباً طويلة لها أبعادها المحلية والإقليمية والدولية.

صحيح انّ المسألة لم تكن تتعلق بشخص الحريري لوحده، فالظروف الدولية كانت مناسبة في العام 1989، ولكنها لم تكن لتثمر اتفاقاً لولا المتابعة والتجربة والإصرار اللذان طبعا رفيق الحريري.

بالتأكيد لم تكن المهمة سهلة بعد إنجاز الاتفاق، فالقضية كانت محفوفة بالمخاطر العامة والشخصية، وتتطلب دائماً السير في حقل من ​الألغام​ السياسية والاجتماعية والعقائدية والأمنية. ولكن الفرصة يومها كانت ​مؤتمر​ ​السلام​ في ​مدريد​، وكان ​الشرق الأوسط​ قد دخل في سباق ايجابي نحو التحضير لمرحلة السلام القادمة عمرانياً واقتصادياً. لقد وجد رفيق الحريري في ذلك الفرصة للاستقرار الأمني الذي ينشدها كل صاحب مشروع واستثمار، لذلك فقد بدأ بحركة محمومة للبناء والإعمار. ولكن في الوقت ذاته، كان يحاول مشاركة ​النظام السوري​ في رؤياه، محاولاً استدراجه نحو التطور المبني على التسويات في مختلف ​الميادين​ السياسية والاقتصادية، ولهذه المحاولات مع ​حافظ الأسد​ شهود أحياء على تلك المرحلة.

في لقاء مع الرئيس الشهيد في تلك الفترة، وأنا المشكّك الدائم بنيات النظام السوري، قلت له بأنني متأكّد انّه سيأتي اليوم الذي سيصطدم فيه مع النظام السوري، لأنّه بحركته يسعى الى إرساء قواعد ​الدولة​ في لبنان اقتصادياً وعمرانياً وديبلوماسياً، وهذا يعني أنّ عهد الوصاية سيصل عاجلاً أم آجلاً لنهايته، وهذا بالطبع ليس خافياً على النظام السوري. ابتسم يومها، مع علمه انني كنت أحاول إحراجه بسؤالي والظهور بمظهر «الجريء» أمام الحضور، ولكنه أجابني بهدوء: «شوف يا دكتور، أنا أتفهم خلفية سؤالك، ولكنني أسعى منذ سنوات الى إدخال لبنان و​سوريا​ في شراكة مربحة للطرفين على المستوى الحضاري والاقتصادي، بحيث تصبح مسألة الوصاية والهيمنة قضية ثانوية للقيادة في سوريا». كان ذلك قبل دخول لبنان في عهد ​اميل لحود​ الذي حاول فرض «سورنة» ​النظام اللبناني​ من خلال إلغاء كل مظاهر الحرية وتداول ​السلطة​، كبديل عن «لبننة» النظام في سوريا كما كان يحلم رفيق الحريري. ولكن مع كل ذلك لم ييأس، فقد كان يعلم أنّ لعبة ما كان يُسمّى بالمنظومة الأمنية اللبنانية ـ السورية، هي العبث من خلال الملف الأمني لضرب الاقتصاد. أما هو فقد كان من خلال قبوله بالدخول في تسويات، كانت تبدو مذّلة أحياناً، يسعى الى اصطياد فترات من الاستقرار كان يخطفها من فم الأسد ليؤمّن بعضاً من الاحتياطي للأيام السود.

بالطبع، لم يكن من السهل تعامل منطق البطش والإكراه مع ليونة وحوارية رفيق الحريري وقدراته الدائمة على اختراع المخارج والحلول، لذلك فقد كان القرار شطبه نهائياً من المعادلة، فكان ​الإعدام​.

لماذا العودة إلى هذا الموضوع الآن؟ الواقع هو أنّ الكثير من الكلام المسف الذي يسوقه المغرضون الجاهلون منه والعالمون بحقائق الأمور، أتى لضرب معنى الذكرى وتسويغ الفشل باتهام السياسات الحريرية، وحجب الأنظار عن هروبهم وتركهم «الشقى على من بقى». رفيق الحريري بقي لأنّه كان أسير الحلم، محاولاً خطف الفرص من فم الأسد.