يبدو من الواضح أنّ المنطقة دخلت في مرحلة عضّ الأصابع وشدّ الحبال التي تسبق الاتفاق على شروط وقف الحروب ​الإرهاب​ية وانسحاب القوات المحتلة، وإنهاء الأزمات التي فجرتها إدارة العدوان في ​واشنطن​…

في هذا السياق تحاول إدارة الرئيس الأميركي ​جو بايدن​ الحصول على مكاسب سياسية وجوائز ترضية مقابل العودة إلى ​الاتفاق النووي​، ووقف الحرب في ​اليمن​، والامتناع عن مواصلة تغذية ودعم إرهابيّي داعش في سورية و​العراق​، وإعاقة إعادة الأعمار وعودة ​اللاجئين​.. وسحب ​القوات الأميركية​ من البلدين…

ولهذا فإنّ إدارة بايدن، عبر فريقها الجديد، بدأت بعدة خطوات بمثابة رسائل تظهر استعدادها للحوار والانفتاح على أطراف حلف المقاومة، على أمل أن تلاقي التجاوب والترحيب وبالتالي تجميل صورة ال​سياسة​ الأميركية، وظهورها كالحمل الوديع الجانح للسلام والتسويات ووقف الحروب وإراقة الدماء وتجويع الناس، وبالتالي محاولة الحصول عبر دبلوماسية التفاوض والمناورة بثوب الإنسانية الخداع، على بعض التنازلات والمكاسب السياسية التي عجزت عن ​تحقيق​ها بواسطة حروبها العسكرية والإرهابية والحصار الاقتصادي والعقوبات… التي كان بايدن وفريقه – شركاء فيها في مرحلة إدارة الرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​، التي في عهدها شنّت الحروب الإرهابية والاقتصادية وفرضت العقوبات كسلاح لتعويم مشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة وفرض تنفيذ خطتها لإقامة ​الشرق الأوسط​ الجديد…

وأبرز الرسائل التي بعثت بها إدارة بايدن كمقدمة لمحاولة استدراج أطراف حلف المقاومة إلى بازار التفاوض.. تمثلت بالتالي:

الرسالة الأولى، إعلان إدارة بايدن تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً للشأن ال​إيران​ي، باعتباره من المناصرين بحماس للعودة إلى الاتفاق النووي ومعارضة سياسة العقوبات، لكن سرعان ما اتبعت هذه الرسالة بشرط، أعلنه ​وزير الخارجية​ ​أنتوني بلينكن​، وهو، انّ ​الولايات المتحدة​ مستعدة للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي إذا عادت إيران إلى التزاماتها به، وقبلت بعد ذلك بالدخول في مفاوضات حول برنامجها الصاروخي وسياساتها في المنطقة…

هذه الرسالة واضحة في أهدافها. تريد قلب المشهد وتصوير أنّ إيران هي التي تخلت عن تنفيذ الاتفاق، وليس ​أميركا​ التي انسحبت منه رغم التزام إيران به، وبالتالي لا تريد إدارة بايدن أن تظهر انها تراجعت عن تنصّلها وانسحابها من الاتفاق بعد توقيعها عليه وتحوّله إلى معاهدة دولية بمصادقة ​مجلس الأمن الدولي​ عليه.. كما أنها تريد إدارة بايدن تجديد التفاوض لاحقاً لتعديل الاتفاق لتحقيق ما عجزت عنه إدارة أوباما في مرحلة التفاوض التي سبقت التوصل إلى الاتفاق…

الرسالة الثانية، إعلان وقف دعم أميركا للعمليات العسكرية في اليمن بما في ذلك بيع ال​أسلحة​ للسعودية، ثم اتبع ذلك بإلغاء قرار ​ترامب​ إدراج حركة ​أنصار الله​ على قائمة الإرهاب الأميركية، لدواع إنسانية، كما قال… لكنه في الوقت نفسه أكد بايدن على مواصلة الالتزام بدعم وحماية المملكة السعودية، في خطوة وصفت بأنها تطمين للحكومة السعودية، بأنّ أميركا لن تتخلى عنها، وأنّ قرارها وقف الحرب في اليمن، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إنما ينطلق من المصلحة الأميركية والسعودية، لأنّ الحرب فشلت واستمرارها له تداعيات خطرة على السعودية والنفوذ الاستعماري الأميركي في الخليج… وبالتالي لا يوجد خيار آخر أفضل.. لكن هذا القرار بوقف الحرب، تريده واشنطن منطلقاً للمفاوضات تقود إلى تحقيق تسوية سياسية تضع نهاية للحرب، لكن تسوية تضمن من خلالها واشنطن و​الرياض​ إعادة تركيب النظام اليمني بما يمكن القوى التابعة لهما من الحصول على حضور قوي في مؤسسات ​الدولة​ لا سيما الحكومة والمؤسسات العسكرية والأمنية.. وبالتالي عدم انتظار ان يقرّر الشعب اليمني مصيره بنفسه عبر ​انتخابات​ ديمقراطية تقرر نتائجها من يملك الأغلبية لإعادة تشكيل الحكم ومؤسسات الدولة بناء عليها.. فواشنطن والرياض تدركان جيداً بأنّ موازين القوى الشعبية لم تعد لمصلحة القوى التابعة لهما، وإنما باتت تميل بشكل كبير لمصلحة ​حركة أنصار الله​ و​القوى الوطنية​ الحليفة لها والرافضة للتدخلات الخارجية في شؤون اليمن والتواقة لتحقيق ​الاستقلال​ الوطني السياسي والاقتصادي لليمن…

الرسالة الثالثة، إعلان بلينكن عدم موافقته على الاعتراف بضمّ هضبة ​الجولان​، لكيان الاحتلال الصهيوني، في وقت صرّح فيه قائد القوات الأميركية في المنطقة الوسطى ماكينزي انّ قواته لم تعد مسؤولة عن حماية استغلال موارد ​النفط​ والغاز في شمال شرق سورية من قبل شركة «انيرجي» الأميركية الخاصة وقوات «قسد»… وان مهمة القوات الأميركية تقتصر على ​محاربة داعش​.

الظاهر من خلال هذه الرسالة أنها تأتي لتلاقي ما كان قد اقترحه ​جيفري فيلتمان​ المرشح لتسلم متابعة الملف السوري، بفتح قنوات التفاوض مع ​القيادة​ السورية لمحاولة الحصول على تنازلات بما أسماه الإصلاح الشفاف مقابل تخفيف الحصار والعقوبات والسماح بعودة اللاجئين وإعادة الأعمار… ولتشير أيضاً إلى عدم إمكانية تكريس ضمّ الجولان بعد فشل أميركا في تغيير نظام حكم الرئيس ​بشار الأسد​ الذي انتصر.

الرسالة الرابعة، التي لم تعلن بعد، وهي انّ القوات الأميركية لن تنسحب من العراق إلا إذا وافقت ​بغداد​ على السماح ببقاء قواعد أميركية تحت عنوان ​مساعدة​ ​القوات العراقية​ في التدريب ومواصلة محاربة الإرهاب، ومنحت الشركات الأميركية حقاً حصرياً باستخراج وتسويق النفط، وامتنعت عن تنفيذ اتفاق الشراكة الاستراتيجي مع الصين… في مواجهة هذه الرسائل الأميركية التي تظهر مرونة دبلوماسية، بهدف ابتزاز تنازلات لمصلحة ​السياسة​ الأميركية، جاء ردّ أطراف حلف المقاومة، حازماً وصارماً، بأنه لا تنازلات او جوائز ترضية ستحصل عليها واشنطن مقابل التوقف عن حروبها، والانسحاب، والعودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات.. وإلا فإنّ أميركا لن تحصد، من سياسة الابتزاز هذه، إلا المزيد من الفشل والخسارة والتداعيات السلبية على قواتها المحتلة ونفوذها الاستعماري في المنطقة.

هذا الموقف لأطراف حلف المقاومة تجسّد بالشروط المقابلة والردود على الشروط الأميركية ومحاولات إدارة بايدن الدخول في بازار التفاوض.

وهذه الشروط المقابلة هي:

اولاً، إعلان ​طهران​ انها لن تقبل العودة إلى التزاماتها بالاتفاق النووي، قبل أن تعود واشنطن إلى الاتفاق الذي انسحبت منه، والالتزام العملي به، ورفع العقوبات وإلغاء كلّ الإجراءات التي تتعارض مع الاتفاق، وتعويض إيران عن الأضرار التي أصابتها.. واذا ما رفضت واشنطن ذلك وأصرّت على مواصلة سياسة الغطرسة والتعالي، ولم تتواضع وتقبل باحترام حقوق إيران والتعامل معها من موقع الندّ للندّ، فإنّ الفرصة التي منحتها طهران لعودة واشنطن للاتفاق النووي بدأت تقترب من النهاية، وهي نهاية شباط الجاري… وعندها فإنّ ​الحكومة الإيرانية​ ستكون ملزمة بتنفيذ قرار ​مجلس الشورى​ برفع نسبة التخصيب إلى مستويات عالية جداً تضع إيران على أعتاب امتلاك قدرة إنتاج القنبلة النووية متى أرادت ذلك، وبالتالي خروج إيران نهائياً من الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن، ليصبح ما يحكم علاقات إيران مع الدول الغربية، معاهدة حظر التسلح النووي… غير أنّ الردّ الإيراني الأقوى وغير المسبوق جاء أخيراً على لسان مسؤول الأمن ​محمود علوي​ الذي أعلن انّ الضغط الغربي المستمر يمكن أن يدفع طهران إلى الدفاع عن النفس، والسعي الى حيازة أسلحة نووية…

وفي ظلّ عدم قدرة واشنطن في التأثير على قرار إيران، عسكرياً واقتصادياً، فإنّ إدارة بايدن ليس أمامها سوى الفرصة الوحيدة المتاحة حتى نهاية شباط… للعودة إلى الاتفاق، والتخلي عن أوهام القدرة على فرض شروط لهذه العودة.

ثانياً، انّ حركة أنصار الله لا تخدع بتصريحات أميركية، فـ «أيّ تحرك لا يحقق نتائج عملية على الأرض بإنهاء الحصار وإيقاف العدوان يُعتبر شكلياً ولا نلتفت إليه.. ولسنا ممن تخدعه التصريحات كيف ما كانت…»

هذا الردّ على توجه بايدن لوقف الحرب في اليمن، جاء من ​محمد الحوثي​ عضو المجلس السياسي الأعلى، تبعه ميدانياً مواصلة العمليات العسكرية ضدّ قوى العدوان، لاستكمال تحرير محافظة مأرب، وتوجيه ضربات في العمق السعودي، وتحديداً لمطار أبها العسكري، مما وجه رسالة قوية بالنار أيضاً، بأنّ أنصار الله ليسوا في موقع المهزوم حتى يقبلوا شروط واشنطن لوقف الحرب ورفع الحصار، وانها تملك القدرة والإرادة على مواصلة المقاومة وتحقيق الانتصارات، وتكبيد المملكة المزيد من الخسائر ورفع كلفة فاتورة حربها المدمرة…

ثالثاً، تأكيد سورية بأنها ليست لاهثة وراء حوار مع واشنطن، إذا لم تقبل الأخيرة ومسبقاً بشروط دمشق لهذا الحوار، وهي:

1 ـ انسحاب القوات الأميركية من سورية، والموجودة من دون إذن ​الحكومة السورية​.

2 ـ وقف سرقة ​النفط والغاز​ من سورية.

3 ـ وقف دعم قوات «قسد» الانفصالية.

4 ـ الامتناع عن التدخل الأميركي في شؤون سورية الداخلية، واحترام سيادة واستقلال سورية.. والتوقف عن إعاقة عودة اللاجئين، وإعادة الأعمار…

5 ـ رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية قبل وبعد «قانون قيصر».

هذه الشروط السورية إنما تؤكد بأنّ سورية التي صمدت وقاومت جيوش الإرهاب وقدّمت التضحيات الجسام في سبيل الحفاظ على سيادتها واستقلالها وحرية قرارها وثوابتها الوطنية والقومية، ورفض السماح بأيّ تدخل في شؤونها الداخلية، هي اليوم أكثر تصميماً على التمسك بهذه المسلمات، وما رفضت التنازل عنه على مدى عشر سنوات لن تقدّمه الآن لمن ارتكب الجرائم والمجازر بحق شعبها ودمّر سورية… وإذا ما رفضت واشنطن، الاستجابة لشروط دمشق، فليس أمام قواتها المحتلة سوى مواجهة المقاومة الوطنية السورية التي ستجبرها، عاجلاً أم آجلاً، على الرحيل مهزومة من دون حتى أن تحفظ ماء وجهها…

رابعاً، تأكيد العراق أنه لم يعد بحاجة إلى استمرار تواجد القوات الأميركية، بعد نجاحه في إلحاق الهزيمة بداعش، التي كانت الذريعة لعودة هذه القوات بحجة مساعدة العراق على مكافحتها… وقد جاء قرار ​البرلمان العراقي​ حاسماً بدعوة القوات الأميركية إلى الانسحاب… وإذا كانت واشنطن تعتقد انها تستطيع تحقيق ما عجزت عنه خلال احتلالها العراق بين 2003 و2011، فإنها واهمة لأنّ قوى و​فصائل المقاومة​ التي هزمتها، وأجبرتها على الانسحاب تحت جنح الظلام. أصحبت اليوم أشدّ بأساً وأكثر قوة وقدرة على إجبار القوات الأميركية على الرحيل مرة ثانية تحت ضربات المقاومة…

خلاصة القول، انّ أطراف حلف المقاومة حسمت قرارها في قطع الطريق على المناورات الدبلوماسية لإدارة بايدن، وقرّرت إفهامها بعقم الرهان على إمكانية حصولها على تنازلات وجوائز ترضية مقابل انسحاب قواتها ووقف حروبها الإرهابية والحصار الاقتصادي، والعودة إلى الاتفاق النووي، وانه ليس من سبيل أمامها للخروج من المأزق الذي وقعت فيه سياساتها، الا التسليم بفشل حروبها وعدم القدرة على تحقيق مكاسب، وبالتالي سحب قواتها المحتلة وتجنب المزيد من التداعيات السلبية لبقائها.