اشار رئيس حزب "​القوّات اللبنانيّة​" ​سمير جعجع​ الى انه لم تكن المشكلة في لبنان يوما متأتية من النظام السياسي، بل من اختلاف اللبنانيين حول أمور تعتبر في الدول الغربية والحديثة من البديهيات. ولفت الى انه لم يستعد لبنان سيادته واستقلاله مع خروج ​الجيش السوري​ من لبنان في 26 نيسان 2005، لأن الاحتلال السوري تقاسم الأدوار مع ​طهران​ في لبنان لجهة إمساكه بكل مفاصل السلطة اللبنانية، وتركه سلاح ​حزب الله​ تحت عنوان المقاومة، ومع خروجه من لبنان تولى الحزب الدور نفسه للنظام السوري باحتجاز السيادة والاستقلال ومصادرة القرار الاستراتيجي للدولة على مستوى الحرب والسلم. فكيف يمكن لوضع اي دولة ان يستقيم في ظل وجود سلاحين على أرضها، سلاح الجيش الشرعي وسلاح الميليشيا؟ كما ان مصادرة قرار الدولة ينعكس على عمل كل مؤسسات الدولة السياسية والقضائية والأمنية، وهذا ما يفسر حالة الفوضى المستشرية في ظل تبادل الخدمات بين منظومة الفساد ومنظومة السلاح. فلو اخترنا أحدث نظام سياسي في العالم وأسقطناه على لبنان، فهل هذا النظام سيكون قابلا للتطبيق في ظل وجود حزب يتمسك بسلاحه، ويبدّي أولوية الدولة الإيرانية التي يشكل جزءا لا يتجزأ من محورها على الدولة اللبنانية؟

وفي مقابلة مع مجلّة "Revue Politique et Parlementaire" الفرنسيّة بمناسبة المئوية على إعلان لبنان الكبيرة، اعتبر جعجع بان الأزمات اللبنانية المتناسلة لا علاقة لها بشكل أساسي بالنظام الطائفي كما يدعي البعض ويصوِّر إما لخلفيات سطحية، وإما من أجل ضرب التوازنات الداخلية وميثاق العيش المشترك وتغيير وجه لبنان ودوره، والدليل انه عندما التزم لبنان الحياد عن محاور الصراع الخارجية بين عامي 1943 و1969، مع استثناء طبعا حوادث العام 1958، شهد مرحلة من الاستقرار والازدهار جعلت منه "سويسرا الشرق"، فكان مستشفى الشرق الأوسط، وجامعة ومدرسة الشرق الأوسط، وسياحة الشرق الأوسط، ومصرف الشرق الأوسط، ولم ينهار الوضع إلا بفعل تداخل العامل الفلسطيني بتحرير "القدس من جونية" مع العامل الداخلي. وهذا لا يعني ان النظام القائم هو مثالي، فيما لا يوجد اي نظام مثالي في العالم، وكل الأنظمة يجب ان تعكس طبيعة المجتمع، وان تتطور مع تطوره، وما يحول دون التفكير بتطويرها او تحديثها هو ان الخلاف ما زال يتمحور حول الولاء للبنان، فيما ولاء البعض هو لدول وقضايا أخرى، وطالما ان أزمة الولاء لم تعالج فعبثا البحث عن نظام أو غيره، وعندما يتوحد الشعب اللبناني حول الدولة ونهائيتها تصبح الخلافات الأخرى ثانوية لا بنيوية وجوهرية كما هي اليوم. واي تطوير محتمل للنظام يجب ان يذهب باتجاه اللامركزية الموسعة التي تؤدي إلى تحسين الخدمات وتوفير فرص العمل وزيادة الإنتاجية وتفعيل القطاعات وترييح اللبنانيين.

واوضح انه في موازاة هذا الجانب لا يمكن الاستخفاف بعامل أساسي أيضا وهو انه في العقود الثلاثة الأخيرة افتقد لبنان للنخب السياسية التي تضع نصب أعينها قيام دولة المؤسسات، ولا تخضع في ممارستها لأي ترهيب أو ترغيب، ولو انوجدت هذه الفئة لما تمدد الفساد عموديا وأفقيا، لأنها كانت شكلت حاجزا أمام تمدده وانتشاره، ولكن، ويا للأسف، غابت النخب أو انكفأت عن ممارسة الشأن العام، وهذا ما يفسِّر التراجع المخيف على مستوى كل ما يتصل بمؤسسات الدولة. واكد بانه ما زالت فرنسا الحليف الاستراتيجي الأوّل للبنان، فباريس لا تتعامل مع لبنان على قاعدة المصلحة، إنما انطلاقا مما يجمعها مع اللبنانيين من روابط تاريخية وثقافية وسياسية، وهناك شعور متبادل بالارتياح، ولم توفر فرنسا مناسبة إلا وترجمة مشاعرها حيال لبنان، إن في مؤتمرات الدعم الاقتصادية، أو في المنعطفات المصيرية مع اغتيال الرئيس ​رفيق الحريري​، وهي تضع كل جهدها لمساعدة لبنان واللبنانيين، والدليل الأخير ان الرئيس ​إيمانويل ماكرون​ ترك كل انشغالاته واهتماماته والأزمة الصحية التي تضرب العالم ومنها فرنسا، وتوجه إلى لبنان متضامنا على أثر انفجار 4 آب، وباحثا عن الحلول المرجوة من أجل إخراج لبنان من أزمته، وقد شكلت زيارته ارتياحا شعبيا واسعا. وفي موازاة الدعم الدائم للدولة الفرنسية للبنان، فهناك علاقة مميزة وتاريخية تجمع الشعبين اللبناني والفرنسي.

وراى بانه لم يتبدّل الدور المسيحي منذ ما قبل نشأة الكيان اللبناني إلى اليوم، ويتمثّل هذا الدور في إقامة دولة تتسع للجميع وترتكز على الحرية والديموقراطية والتعددية، وهذا الدور المسيحي بالذات جعل من لبنان "سويسرا الشرق"، وذاك الجسر بين الشرق والغرب، وتمثِّل "​القوات اللبنانية​" امتدادا لهذا الخط التاريخي من خلال دفاعها المستميت عن الدولة والسيادة والاستقلال والحرية والشراكة والمساواة والشفافية في ممارسة الشأن العام. فالدور المسيحي التاريخي ارتكز على قدرة المسيحيين في بناء دولة الدستور والقانون والحريات والشفافية، ولا دور لهم خارج هذه الثوابت والمبادئ والمسلمات، لأن الدولة وحدها تشكل المساحة المشتركة بين جميع اللبنانيين، وما يحكى عن النموذج اللبناني ووطن الرسالة هو حصيلة هذا التفاعل بين الجماعات من دون ان تلغي الواحدة الأخرى وتحت سقف الدولة، وهي تعمل جميعها في خدمة الانسان اللبناني. ولم يضرب هذا المشروع إلا بسبب وجود فريق مثل "حزب الله" خرج عن إجماع اللبنانيين بحمله للسلاح على حساب الدولة، وحمله مشروعا سياسيا يتناقض مع جوهر دور لبنان ورسالته، والأسوأ من كل ذلك ان "​التيار الوطني الحر​" الذي بنى شعبيته وشرعيته على الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله، أقام تحالفا مع "حزب الله" الذي يحول دون قيام الدولة، فخرج التيار عن الخط التاريخي المسيحي بتغطية مشروع سياسي يتناقض مع كل فلسفة المسيحيين ونظرتهم للدولة في لبنان. فالدور الفاعل للمسيحيين في لبنان هو بفعل التزامهم بهذا الخط التاريخي وحرصهم على صيانته، وعندما ضرب هذا الخط سقطت الدولة وتفككت، ولا خلاص للبنان سوى بالتقيد بمسلمات المشروع اللبناني وثوابته، والحرب التي شنت وتشن على "القوات" سبهها تمسكها بهذا الخط الذي تشكل رأس حربته، لأن هناك من يريد دوما إبقاء لبنان ساحة لا دولة.

ولفت رئيس القوات الى ان الحياد شكل جزءا لا يتجزأ من ميثاق العام 1943، والحياد ليس مسألة جديدة او غريبة عن لبنان، بل عندما طبِّق شهد البلد استقرارا غير مسبوق وازدهارا فريد من نوعه، وتكفي مقارنة الحقبة التي طبِّق فيها الحياد مع المرحلة التي أسقط فيها هذا الحياد والتي تحول معها إلى دولة فاشلة ومفلسة ومأزومة، وبالتالي لا حلّ سوى بالعودة إلى انطلاقة الجمهورية الأولى وإعادة إحياء الحياد الذي يشكل أحد أهداف "القوات اللبنانية"، وهذا ما دفعها لاحتضان مبادرة البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ الذي يقود أفضل مواجهة دفاعا عن مشروع الحياد من أجل الحفاظ على لبنان ودوره ورسالته. والمقصود بالحياد ليس الحياد الاقتصادي، إنما السياسي والعسكري بان لا يقحم لبنان نفسه بصراعات الخارج والمحاور الدولية والإقليمية، لأنه من دون الالتزام بالحياد ستنعكس الصراعات الخارجية على الداخل بانقسامات عمودية بين اللبنانيين بين هذا المحور وذاك، فتسقط الدولة على غرار ما هو حاصل اليوم. وقد دلّت التجربة التاريخية انه في كل مرة سقط فيها الحياد سقط الاستقرار، وفي كل مرة احترم فيها الحياد ترسّخ الاستقرار، ومن يدعم الحياد يدعم العيش المشترك في لبنان، ومن يقف ضد الحياد يقف ضد العيش المشترك، لأن إسقاط الحياد يؤدي إلى ضرب العيش معا. وليس عن طريق الصدفة تم اعتماد الحياد مع انطلاقة الجمهورية في العام 1943، إنما لأنه من دون الحياد لم يكن من إمكانية لهذه الانطلاقة، لأن تركيبة لبنان التعددية تستدعي إبعاده عن أزمات المنطقة ومحاورها، وبالتالي الحياد يشكل المدخل للاستقرار وبناء الدولة وتطبيق الدستور والالتزام بروحية الميثاق.

وذكر بان الخلاف مع حزب الله ليس فقط من طبيعة سياسية، إنما أيضا ايديولوجية وثقافية، وبالتالي الهوة كبيرة جدا بيننا وبينه، فالقوات قضيتها لبنان، فيما قضية الحزب الأمة الإسلامية، والقوات تدفع باتجاه ترسيم حدود لبنان تأكيدا لنهائيته، فيما الحزب غير مؤمن بحدود الدول الجغرافية، والقوات مع مشروع الدولة، فيما الحزب مع مشروع دولته، ومع هذا الخلاف الكبير كان كل الهمّ اعتبارا من العام 2005 تجنُّب تفجير لبنان وعودة الحرب الأهلية، فتم تنظيم التعايش في مرحلة أولى تحت سقف ​المؤسسات الدستورية​ من دون ان يكون هناك اي تنسيق سياسي، بل مجرد تقاطع تقني، وفي المرحلة الأخيرة وصلت "القوات" إلى قناعة بان حتى التنسيق التقني يجب وقفه لأنه يستحيل بناء الدولة من دون رفع يد الحزب والعهد الحالي عنها، وهذا ما يفسِّر مطالباتها بحكومة اختصاصيين مستقلين تماما، لأن مصير اي حكومة الفشل في حال واصل فريق ​8 آذار​ إمساكه بمفاصل السلطة في لبنان. ولن تنتهي المواجهة السياسية مع "حزب الله" قبل ان يسلِّم سلاحه للدولة التي لا يمكن ان تنهض في ظل وجود دولة داخلها، ولا تهاون في هذه المسألة التي حولت لبنان إلى دولة فاشلة بسبب تعليقها دستوره وقوانينه، وأدت إلى عزله عن العالمين العربي والغربي.

وراى بان لا يمكن ان يكون لبنان إلا هو نفسه بدوره ونموذجيته ورسالته، وهذا الدور بالذات الذي جعل منه وعلى رغم صغر حجمه قيمة عالمية، فلبنان هو الوحيد في العالم الذي يتشارك فيه المسيحيون والمسلمون بكل مذاهبهم في السلطة وفي دولة مدنية قائمة على الحرية والديموقراطية، ويشكل لبنان على هذا المستوى رسالة لتفاعل الحضارات بدلا من تصادمها، ومساحة للحوار الخلاق وقبول الآخر كما هو عليه، ولكن من أجل ان يستعيد هذا البلد دوره على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي والسياحي، كما رسالته في هذا العالم، يجب ان يستعيد سيادته واستقلاله وقراره، وهذا ما نناضل من أجله، وسنواصل هذا النضال إلى ان يعود لبنان دولة طبيعية أولويتها الانسان والاستقرار والسلام.