من يدقق في مشهد الصراع المحتدم اليوم بين الجمهورية الإسلامية ال​إيران​ية من جهة، والامبريالية الأميركية وحلفائها من الدول الغربية الاستعمارية من جهة أخرى، يلحظ كيف أنّ الإرادة التحررية تتجلى اليوم بأبهى صوَرها في القرارات الوطنية المستقلة الصلبة والشجاعة والجريئة التي تتخذها قيادة الثورة الإيرانية المستمرة، في رفض الخضوع للشروط الاستعمارية، وفي عدم الانخداع ب​مناورات​ الغرب، وفي الدفاع عن حقوق إيران، دولة وشعباً، والمتمثلة في اتخاذ القرارات المنسجمة مع مصالح الشعب الإيراني، وفي مواصلة نهج تدعيم وتعزيز الإنجازات التي حققتها الثورة الإيرانية منذ انطلاقتها وحتى اليوم، والتي تجسّدت في بناء مشروع ​الدولة​ الإيرانية المستقلة القوية والحضارية والمتطورة في المجالات كافة، والتي نجحت في كسر احتكار الغرب للمعرفة والتكنولوجيا، وفي امتلاك تقنية إنتاج ​الطاقة النووية​، عبر بناء المشروع النووي للأغراض السلمية… وكذلك بناء ​منظومة​ الدفاع عن استقلال وسيادة وحرية إيران في اتخاذ قراراتها التي تنسجم مع مصالحها، ورفض كلّ ما يتعارض مع هذا المصالح.. والاستعداد لكلّ السيناريوات في مواجهة القوى الاستعمارية المتغطرسة والمتجبّرة.

بهذه الروح الثورية التحررية، والإرادة المستقلة التي جسدتها قيادة ​الثورة الإسلامية​ على مدى 42 عاماً، تقدّم إيران ـ الثورة المستمرة، دروساً جديدة في تأكيد القدرة على إحباط مخططات القوى الاستعمارية و​تحقيق​ النصر عليها واجبارها على التراجع والتسليم بحقوق ومطالب إيران العادلة بما خصّ رفع العقوبات الاقتصادية ​الإرهاب​ية التي فرضتها إدارة العدوان في ​واشنطن​، كشرط لا بدّ منه لتراجع ​طهران​ عن خطوات تقليص التزاماتها في ​الاتفاق النووي​.. هذا التراجع الأميركي الذي تجسد بقرار الإفراج عن سبعة مليارات ​دولار​ لإيران في البنوك ​كوريا الجنوبية​، إنما هو الخطوة العملية الأولى التي تقدم عليها واشنطن على طريق رفع كامل العقوبات عن إيران، التي أعلنت بوضوح استراتيجية مواجهة، في حالة إصرار واشنطن على عدم رفع العقوبات، وفي حالة تراجعها وإقدامها على رفع هذه العقوبات.. وتقوم هذه الاستراتيجية، على عنصرين:

العنصر الأول، وضع سقف زمني لتقليص التزامات منظمة الطاقة الإيرانية في الاتفاق النووي وصولاً إلى الخروج الكامل من الاتفاق وتخصيب اليورانيوم بالنسبة التي تحتاج إليها إيران، والتي تملك القدرة على رفع التخصيب إلى 90 بالمئة، وهي النسبة التي تجعلها على عتبة امتلاك القدرة على صناعة القنبلة النووية إذا أرادت ذلك…

العنصر الثاني، ​مقابلة​ أيّ خطوة إيجابية تقدم علية إدارة بايدن بخطوة إيجابية، أيّ أنّ إيران توقف خطوات تقليص التزاماتها، مقابل خطوات أميركية عملية برفع العقوبات.. أما تراجع إيران عن كامل إجراءاتها التي اتخذتها بناء على قرار البرلمان، فإنه مرتبط برفع ​أميركا​ كلّ العقوبات المفروضة والالتزام العملي بتنفيذ الاتفاق من قبل كلّ الموقعين عليه..

هذه الاستراتيجية، التي اتبعتها إيران، حدّت من قدرة واشنطن على المناورة في محاولة ربط رفع العقوبات بتحقيق بعض التعديلات على الاتفاق، وجعلت إدارة ​جو بايدن​ أمام خيارين اثنين، لا ثالث لهما:

الخيار الأول، ويتمثل في بدء النزول من أعلى الشجرة، وترجمة العودة إلى مسار الاتفاق من دون شروط، عبر الإقدام على المباشرة برفع العقوبات عن إيران لإنقاذ الاتفاق من الانهيار ..

والخيار الثاني، الاستمرار في رفض رفع العقوبات قبل تراجع إيران عن الإجراءات التي اتخذتها بتقليص التزاماتها بالاتفاق، الأمر الذي ترفضه طهران وسيدفعها إلى مواصلة تنفيذ روزنامة الخروج الكامل من الاتفاق، الذي انسحبت منه واشنطن.. لتصبح المعاهدة الدولية لمنع انتشار ​السلاح النووي​ هي التي تحكم علاقة إيران مع ​وكالة الطاقة الدولية​..

وفي هذا السياق جاءت ترجمة إيران لقرارات البرلمان بوقف العمل بالبروتوكول الإضافي في الاتفاق النووي، رداً على استمرار المناورات الأميركية بعدم رفع العقوبات، جاءت لتجبر إدارة بايدن على التراجع، والبدء بأول خطوة عملية في مسار رفع العقوبات، ألا وهي السماح لكوريا الجنوبية بالإفراج عن الأموال الإيرانية المقدّرة بسبعة مليارات دولار..

إذا كانت هذه الخطوة الإيجابية ستقابل من قبل إيران بخطوة إيجابية، إلا أنّ على إدارة بايدن أن تدرك بأنّ السبيل لإنقاذ الاتفاق وعودة إيران لكلّ التزاماتها به، إنما يكمن في تنفيذ شرط إيران القاضي برفع ​العقوبات الأميركية​ كافة، والعودة إلى الاتفاق والتنفيذ العملي لكلّ الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق.. وإيران ليست مستعدة للدخول في اي مساومات بهذا الشأن كما أكد قائد الثورة الإمام ​السيد علي الخامنئي​ وكلّ المسؤولين الإيرانيين..

من هنا يبدو من الواضح أنّ واشنطن تعوّدت أن لا تتراجع إلا عندما تواجه طريقاً مسدوداً في سعيها لتحقيق مخططاتها، ولهذا باتت اليوم أمام مواجهة حقيقية التراجع أمام إيران والتسليم وتنفيذ بما كانت قد وقعت عليه، وبالتالي الإقرار بسقوط استخدام سلاح الإرهاب بالعقوبات الاقتصادية لدفع إيران إلى التسليم بالشروط الأميركية، بعد أن أدركت انّ اللجوء إلى خيار استخدام القوة الأميركية لتدمير البرنامجي النووي يصطدم بقوة الردع الإيرانية التي أثبتت فعاليتها في أكثر من اختبار عملي..

هكذا يتأكد بأنّ الإمبراطورية الأميركية الاستعمارية المتغطرسة لا تفهم سوى لغة القوة والصمود و​الثبات​ في مواجهتها، وهو الدرس الذي أكدته تجارب الثورات العالمية الظافرة والدول المستقلة، وتعيد التأكيد عليه إيران الثورة التحررية المستمرة…