يقول مُؤرِّخٌ للفنِّ إنكليزيّ وهو اللورد Kenneth Clark (١٩٠٣-١٩٨٣م)، "إنّ كلَّ مَن يَرى لوحَةَ عَودةِ الابنِ الضّال للرَّسَّامِ الهُولنديّ الشّهير Rembrandt (١٦٠٦- ١٦٦٩م)، المَعروضَةَ في Hermitage Museum in St. Petersburg في روسيا، يَغفِرُ لِلّذينَ يَقولُونَ بِأنَّها أجملُ لَوحةٍ مَرسومَةٍ في ​العالم​"، وذلك لِأنَّ جمالَها أخَّاذ.

ممّا لا شَكَّ فيهِ أنَّ Rembrandt، كان لامِعًا في طِريقَةِ رَسمِهِ مِن نَاحِيةِ الألوانِ الدّافِئَةِ في لَوحَاتِه، وانعِكاسَاتِ النُّورِ والخَيالاتِ على الوُجُوه التي يرسُمُها.

حتّى أنَّ هُناكَ طريقةَ إضاءَةٍ خَاصَّةً تُنسَبُ إليه، يَستَعمِلُها المُصوِّرون (Les Photographes)، بِحيثُ يَكونُ نصفُ الوَجهِ مُضاءً والنِّصفُ الثّاني في الظِّل، وعَليهِ مِنطقَةُ ضَوءٍ مُثلَّثَةٌ تَحتَ العَين، مِمَّا يُضفي جَمالًا سَاحِرًا على الصُّوَر.

مَثَلُ عَودَةِ الابنِ الشَّاطِرِ سَحَرَ Rembrandt بِالكُليَّةِ، حتّى أنّه أمضى تِسعَ سَنواتٍ من المُحاوَلاتِ قَبلَ التَّوَصُّلِ إلى اللّوحةِ النِّهائيّة.

ويَقولُ Rosenberg، أحدُ البَاحِثينَ الكِبارِ في عَالَمِ الفَنّ، إنَّ عَمَلَ Rembrandt هذا شَكَّلَ ذُروةَ فَنِّهِ في تَرجَمَتِهِ للبُعدِ الرُّوحِيّ في هَذا المَثَلِ ولِرِسالَةِ المَغفِرَة فِيه.

وكأنَّ لَوحتَهُ هذه كانت وَصِيَّتَهُ إلى العَالَمِ كَرمْزٍ لِلظُّلمَةِ الإنسَانِيَّةِ المُضاءَةِ بِرَحمَةِ الله، وكَدَعوَةٍ إلى البَشَرِيَّةِ المُرهقَةِ والخَاطِئةِ لِلعَودَةِ إلى المَصدَرِ والتَّنَعُّمِ بِرحمَةِ اللهِ اللّامُتنَاهِية. فَهُوَ كان يَعي أنَّهُ أمامَ حَدَثٍ غيرِ اعتِياديّ، وهذا ما أرادَ تَرجَمَتَهُ بِالرُّغمِ مِن كِبَرِ سِنِّه.

وكَذَلِكَ مُؤرِّخُونَ آخَرُونَ وَصَفُوا لَوحَتَهُ بِوَقفَةٍ في الأَبَديَّة، والنَّاظِرُ إليها يَجِدُ نفسَهُ في هُدوءِ عَاصِفَةِ الخَطيئَةِ الهَوجَاء.

لننتَقِلِ الآنَ مِنَ الجَمالِ الفَنِّي إلى الجَمالِ الإلَهِيّ الّذي يَفوقُ كُلَّ جَمال.

يَقُولُ Fyodor Dostoevsky (١٨٢١-١٨٨١م) في "Les Possédés"، إنَّهُ يُمكِنُ لِلبَشَرِيَّةِ أن تَستغنِيَ عَن الإنكليز، وعَن ألمانِيا، ورُوسِيا، وعَنِ العُلُومِ والخُبزِ لِتَعيش، ولَكِنَّها لا تستَطيعُ أن تَستَغنِيَ عنِ الجَمال. فمِن دُونِهِ لا شَيءَ نَافعٌ في هَذِهِ الحَياة".

اللهُ فَوقَ الجَمالِ ولا يُريدُ أن يَلبَسَ هَذا الجَمالَ وحدَهُ، بَل يُريدُ أن يُلبِسَنا إيَّاهُ نحنُ أيضًا، لنَكُونَ ذوي جمالٍ علَى صُورَتِه. فلِباسُهُ يَشفينا ويَشفِي العَالَمَ أجمَع، بعدَ أن عَرَّتْنا الخَطيئة. فمَهما اشتَدَّتْ قَباحتُنا لا يُمكِنُ أن تَموتَ صُورةُ اللهِ فِينا، بَل تَعودُ وتَشِعُّ بِمُجرَّدِ السَّعي الجَدِّي إلى جَمالِ أبينا السّماوي.

تَكثُرُ الأسماءُ والصِّفاتُ الّتي أُطلِقَت على اللهِ في كَثيرٍ مِنَ المُعتَقداتِ والأَديانِ عِندَ الشُّعوبِ قَبلَ الميلادِ وبَعدَه، إلّا أن يَكونَ اللهُ أبًا، وتَجسَّدَ مِن أجلِنا لِيَفديَنا، ونحنُ أبناءه، فَهو أمرٌ مَوجودٌ فَقط في المَسيحِيَّة.

قد نَجدُ مَثلًا نَشيدًا مُوجَّهًا في العِبادَةِ الوَثَنِيَّةِ القَمَرِيَّةِ في بِلادِ الرَّافِدَين، مَفادُهُ "أيُّها الآبُ ننار... يا أبًا رحومًا وعطوفًا... أيُّها الآبُ الّذي يَلِدُ الآلِهَةَ والبَشرَ ويَجعلُهم في مَساكِنِ..."، ولَكِن هَذا بَعيدٌ كُلَّ البُعدِ عَنِ الإلَهِ الوَاحِدِ الّذي افتَدَانا بِدَمِه.

بينَما نَجِدُ في العَهدِ القَديمِ أقوالًا وكَلماتٍ ونُبوءاتٍ تُدخِلُنا في مَفهُومِ اللهِ الآبِ لِيَتَجَلَّى المَوضُوعُ في العَهدِ الجَديد: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ". ويُتابِعُ بُولسُ الرَّسولُ بِقَولِه: "ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: "يَا أَبَا الآبُ"(غلاطية ٤:٤-٦).

في العَهدِ القَديمِ جَفَّ قلبُ الشَّعبِ اليَهُوديّ، فَعِوَضَ أن يُحافِظَ على مِيراثِ أبيهِ السَّماويّ، تَاهَ وشَرَدَ ولم يَعُدْ يَفطِنُ إلى مَا قَالَهُ اللهُ عن أُبُوَّتِهِ له. فقد نَسِيَ أنَّ الرَّبَّ قال لِمُوسى: "إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ"(خروج ٢٣:٤) .

ونَجِدُ في مَكانٍ آخَرَ صُورةَ الرَّبِّ كَصُورَةِ الأَبِ والأُمّ، فيقُولُ اللهُ لِمُوسى: "تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إِلهُكُمْ. تَهَابُونَ كُلُّ إِنْسَانٍ أُمَّهُ وَأَبَاهُ، وَتَحْفَظُونَ سُبُوتِي. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ"(لاويين ٢:١٩-٣).

والإعلانُ الوَاضِحُ جَاءَ بِقَولِ الرَّبِّ لِدَاوُدَ عَن نَسلِه: "أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا". وعِندمَا أرادَ يَسوعُ في العَهدِ الجَديدِ أن يُعطِيَنا صُورَةً عنِ اللهِ وَضعَ أمامَنا مَثَلَ الابنِ الشَّاطِرِ والأبِ الحَنُون.

وهذا تمامًا ما يُريدُنا الرَّبُّ أن نُدرِكَه.

المَثَلُ المَذكورُ في إنجيلِ لُوقا (١١:١٥-٢٢) يَكشِفُ بِوُضُوحٍ أنَّ الشَّقِيقَين بِحاجَةٍ إلى شِفَاء. والشَّقيقان يُمَثِّلانِ كُلَّ واحِدٍ مِنّا. الاثنان كانا مُتَغَرِّبانِ عن مَنزِلِهما الأَبَويّ وبِحاجَةٍ أن يَعودَا إلَيه.

​​​​​​​قد تَكُونُ خَطيئَةُ الابنِ الأَصغرِ جَليَّةً، وإنَّما الخَطِيئَةُ الأصعَبُ كانت عندَ الّذي بَقِيَ في مَنزِلِهِ الوالِديّ غريبًا عنِ المَحَبَّة.

فلا شَيءَ يُفسِدُ جَمالَنا إلّا إصرارُنا على المُكوثِ في الخَطِيئَةِ، وما مِن شَيءٍ يَرُدُّ لنا جَمالَنا إلّا التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ والرُّجُوعُ إلى بيتِنَا الأبَويّ السَّماوِي.

الإنسانُ تَغَرَّبَ عنِ اللهِ بِسُقوطِه، فنَزَلَ الرَّبُّ لِيُعيدَنا إليهِ، حتّى أنَّهُ تَبِعَنا إلى الجحيم. فكيفَ كُنّا سَنكتَشِفُ جمالَنا لو لم يَتجَسَّدِ الله؟.

نهايةً، الخطَرُ الأكبَرُ الذي يُهَدِّدُ حَياتَنا هُوَ عَدَمُ التَّوبَة، فَهلّا أَدرَكنا نَتائِجَه وعُدنا؟ إلى الرَّبِّ نطلب.