منذ يوم الأحد الماضي، نالت ما وُصِفت بـ"مبادرة" رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، على خطّ تأليف ​الحكومة​، حيّزًا واسعًا من ​النقاش​ الداخلي، بين مؤيّد ومعارضٍ لها، تبعًا لتأييد باسيل نفسه أو معارضته.

بين خصوم الرجل من سخر من الحديث عن "مبادرة" في الأساس، واعتبر أنّ رئيس "التيار الوطني الحر" تبنّى في مؤتمره الصحافيّ لغة تصعيديّة اتهاميّة لا تمتّ لحقل "المبادرات" المعجميّ بصلة، وهو عقّد ​الأزمة​ أكثر ممّا هي معقّدة.

وبينهم من اعتبر أنّ "المبادرة" التي أطلقها "انتهت" قبل أن ينتهي مؤتمره الصحافي، الذي كان أشبه بأطروحة أو مطالعة مطوّلة، حملت بين طيّاتها مجموعة كبرى من "​الألغام​" الكفيلة بإطاحة أيّ مساعٍ أو جهودٍ لحلّ الأزمة المستفحلة، إن وُجِدت.

لكن، في مقابل هذه الآراء، ثمّة من اعتبر أنّ باسيل "بادر" حيث انكفأ الآخرون، وأنّ "مبادرته" كانت قادرة على فتح "كوة" في الجدار الحكوميّ "المُقفَل"، لو أنّ الإرادة بالحلّ كانت متوافرة فعلاً، بعيدًا عن الكلام، لدى الأفرقاء الآخرين.

يختصر هذا الرأي موقف شريحة "عونية" واسعة، خلصت إلى أنّ ردود خصوم باسيل على "مبادرته" لم تُحرِج الأخير كما حاولوا الإيحاء، بقدر ما "فضحت" حقيقة العرقلة، ودحضت "فرضيّة" أنّ باسيل هو المعطّل الوحيد في الجمهورية!.

ردود لا يُعتَدّ بها!

مع مرور نحو أسبوع على "المبادرة" التي أطلقها باسيل في مؤتمره الصحافيّ الأحد الماضي، يدعو "العونيّون" إلى تأمّل الردود التي صدرت عن الخصوم، والتمعّن بها، ليس فقط لأنّها بمجملها أتت "سلبية"، لكن لأنّها، قبل ذلك، لم تقارب مضمون المبادرة وجوهرها، ولم تتوقف إلا عند "الشكليّات" التي لا تقدّم ولا تؤخّر.

من الردود التي لم يَستسِغها "العونيّون" مثلاً، ولو أنّها قد تنطوي على بعض الواقعيّة، أنّ رئيس "التيار الوطني الحر" لم يحمل جديدًا "نوعيًا" من شأنه إحداث خرق حقيقيّ، خصوصًا حين أعلن أنّه لا يريد أيّ حصّة لنفسه في الحكومة العتيدة، متمسّكًا في الوقت نفسه، بحصّةٍ وازنة ل​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، في "توزيع أدوار" لا يبدو مقنِعًا لكثيرين.

وفي السياق نفسه، قيل أيضًا إنّ باسيل أمضى حيّزًا غير بسيط من مؤتمره الصحافي، وهو يحاول أن يدافع عن "حق" رئيس الجمهورية المشروع بالحصول على الثلث الضامن أو المعطّل، ولكن في معرض نفي المطالبة به، علمًا أنّ الخلاف الحقيقيّ هو على احتساب "​الطاشناق​" ضمن الحصّة الرئاسيّة، الأمر الذي لم يقاربه باسيل من قريب أو بعيد.

لكن بين الردود التي لم يَستسِغها "العونيّون" أيضًا، تلك التي بقيت "أسيرة" ما يصفونه بـ"الحقد" على باسيل، بعيدًا عن أيّ آثارٍ لمنطق يمكن الاعتداد به، أو احترامه بالحدّ الأدنى، كالقول إنّ رئيس "التيار" يضمر عكس ما يقول، أو أنّه "يكذب ويناور"، أو حتى أنّه لن يرضى سوى بالحصول على مقعده الوزاري الخاص، رغم أنّ باسيل لم يطالب بذلك.

بيْد أنّ المشكلة في كلّ هذه الردود، المنطقية منها والخياليّة، وفقًا لرؤية "التيار"، تبقى أنّها أخفقت في مخاطبة "مضمون" المبادرة الحقيقيّ، بل قفزت فوق "كلمة السرّ" فيها، والمتعلقة بـ"الأجندة الإصلاحية" للحكومة المقبلة، والتي كان باسيل واضحًا بإعطائها "الأولوية المُطلَقة"، على حساب كلّ الحصص والمقاعد والوزارات، ولو أنّ البعض حكم هنا أيضًا على "النوايا".

لا يريدون الإصلاح!

لا يعبأ "العونيّون" بالاستهزاء الذي تعرّضت له "مبادرة" رئيسهم، لأنّ الردود "الساخرة" أغفلت "بيت قصيد" المبادرة، والمرتبط بدعوة باسيل الخصوم إلى "التزام" تحقيق الإصلاحات المطلوبة، وعلى رأسها التدقيق الجنائي، مقابل تسهيل عمل الحكومة ومنحها الثقة، ولو لم يحصل "التيار" على مقعدٍ واحدٍ فيها، لأنه بذلك يضرب أكثر من عصفور بحجر.

برأيهم، مثل هذا الاستهزاء لم يكن مُستغرَبًا، فبرنامج الحكومة الإصلاحيّ كان "الغائب الأكبر" عن كلمة رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​، في ذكرى اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، قبل أسبوع من خطاب باسيل، والتي غرق بها في "متاهات" الاتهامات والاتهامات المضادة، فتناسى الحديث عمّا يريد تحقيقه من خلال الحكومة التي يصرّ على اعتبارها "حكومة الإنقاذ".

وفقًا لـ"العونيّين"، فإنّ تغييب "أجندة" الحكومة عن ​خطاب الحريري​، لم يكن "خطأ غير مقصود"، ولا هو دليل "عفويّة"، بقدر ما هو "انزلاق" نحو ما يريده خصوم "التيار الوطني الحر" عن سابق تصوّر وتصميم، كيف لا وهم الذين عرقلوا ​مسيرة​ "العهد"، ومنعوا حكومة حسّان دياب من إنجاز ما كانت تصبو إليه، ولم يتركوها ترحل إلا بعد "التشويش" على إنجازها "اليتيم" المتمثل بالتدقيق الجنائي، وصولاً إلى "إفراغه من مضمونه".

ويشدّد "العونيّون" على أنّ مواقف وتصريحات هذا الأسبوع، على اختلافها وتنوّعها، أكّدت المؤكّد وثبّتت المثبَّت بالنسبة إليهم، وهو أنّ خصوم "التيار" يمارسون ما يتّهمون باسيل به، سواء لجهة تكريس النهج "القديم" في تشكيل المحاكمات، وترسيخ مبدأ "​المحاصصة​" بدون منازع، بعيدًا عن البرنامج الذي كان ينبغي أن يشكّل "البند الرقم واحد" في مشاورات التشكيل، بدل أن يكون "مستترًا" لا أثر له من قريب أو بعيد.

"بيت القصيد" الحقيقيّ!

لخصوم باسيل ردّهم على "الطروحات العونيّة" التي لا تعبّر، برأيهم، سوى عن محاولة "تذاكٍ" وتهرّب من المسؤوليّات، يقولون إنّها "لا تنطلي على أحد".

برأيهم، فإنّ باسيل الذي يحاضر بـ"عفّة الإصلاح"، لم ينفّذ عمليًا ما يطالب به، لا في حكومة حسّان دياب المحسوبة عليه، ولا في غيرها من حكومات "العهد" المتلاحقة، وهو لم يتوقف عن تبنّي خطاب "المظلومية"، تحت شعار "منعونا".

أما الأهم من ذلك، وفق هذا الرأي، فيتمثل في أنّ باسيل الذي لا يفوّت فرصة دون "استفزاز" العديد من الشرائح، بالمطالبة بتعديل ​الدستور​، اقترف بما سُمّيت "مبادرة"، مخالفة واضحة للقانون والدستور، خصوصًا حين طالب بـ"تعهّدات" مسبقة حول برنامج الحكومة.

ويذكّر هؤلاء أنّ الحكومة لا يمكن أن تحدّد برنامجها سوى بعد تشكيلها، علمًا أنّها إما تنال الثقة أو لا تنالها بناءً عليه، ويدعون باسيل لعدم استباق المراحل، وبالتالي تسهيل ولادة الحكومة، بعيدًا عن الصراع على الحصص، ليقرّر بعدها إن كان سيمنح الحكومة الثقة أم لا.

ولا يفوت هؤلاء التنبيه إلى أنّ الخطوط ​العريضة​ لبرنامج الحكومة الإصلاحيّ غير خافية على أحد، طالما أنّ رئيسها المكلَّف يعلن أنّه يسير بمقتضى المبادرة الفرنسيّة، التي وافق عليها جميع الفرقاء، وفي مقدّمهم الوزير باسيل نفسه.

وبمُعزَلٍ عن المآل الذي يمكن أن يسلكه الصراع الدستوري-السياسي، وما يخبّئه خلف طيّاته، يبقى الأكيد أنّ أيّ "تغيير" في العقليّة والذهنيّة لا يبدو "مأمولاً"، ولعلّ هذا هو "بيت القصيد"، بعيدًا عن مبادرةٍ قد يختلف ظاهرها عن باطنها!.