منذ ان انشغل ​العالم​ اجمع بجريمة قتل الصحافي السعودي ​جمال خاشقجي​ في سفارة بلاده في ​تركيا​ عام 2018، و​الولايات المتحدة​ منشغلة في كيفية التوفيق بين العلاقة المميزة التي تربطها ب​السعودية​ من جهة، وبارضاء الاصوات المتصاعدة الداعية الى معاقبة المسؤولين السعوديين الكبار وفي مقدمهم ولي العهد الامير محمد بن سلمان من جهة ثانية، لضلوعهم في هذه الجريمة. ومع ادارة الرئيس الاميركي السابق ​دونالد ترامب​ لهذا الملف، تمّ الاكتفاء بحصيلة ​التحقيقات​ السعوديّة التي اجريت والاحكام التي صدرت. واستغرب البعض منذ ايّام قرار الرئيس الاميركي الحالي ​جو بايدن​، نشر اجزاء كبيرة ومهمة من ​تقرير​ ​الاستخبارات الاميركية​ حول هذا الملفّ، والّذي خلص الى انّ ولي العهد السعودي اراد تخويف خاشقجي وهو مسؤول عن قتله كون الفريق الذي نفذ الجريمة ينفذ اوامره ويخاف من عواقب عدم تلبية هذه الاوامر، اياً تكن. استغراب هذا البعض أتى لكون الولايات المتحدة والسعوديّة مرتبطتان بعلاقة تحالف وثيق، وبتنسيق عالٍ لمواجهة ​ايران​، وبعقود مالية ضخمة تؤمنها المملكة ل​واشنطن​ يصعب على اي رئيس التخلي عنها مهما كانت سياسته وانتماؤه.

ليس من السهل على بايدن السير بين الالغام، فما قيل عن العلاقة بين الدولتين صحيح، ولا يمكن تجاهله لان تداعياته كبيرة وتؤثّر بشكل مباشر على السّياسات الاميركيّة في المنطقة. ولكن، لا يمكن لبايدن ان يتجاهل تعليقاته وانتقاداته لإدارة ترامب في طريقة التعاطي مع هذه الجريمة، كي يبقى أمام مناصريه وحتى أمام من لم ينتخبه، محافظاً على اقواله ومواقفه التي اتخذها قبل وصوله الى الرئاسة. من هنا، كان القرار بإنزال "قصاص" على بن سلمان، ليشكّل هذا الامر الحل الوسط الافضل، لأنّه لا ينهي العلاقة مع السعودية او يؤثّر عليها بصورة كبيرة، ويعطي في الوقت نفسه صورة مقبولة جداً عن نيّة الادارة الاميركيّة ​الجديدة​ في لعب دورها على صعيد العالم وفق ما كانت معروفة به. المؤشّرات الّتي ظهرت في هذا السياق كفيلة بتفسير هذا العقاب، اذ اتّصل بايدن بالملك سلمان بن عبد العزيز ولم يتحادث مع ابنه، في وقت كانت معظم أحاديث ترامب تمر من خلال ولي العهد الذي يُعتبر وفق الكثيرين، الحاكم الفعلي للمملكة، كما تمّت معاقبة ثمانية من الحلقة المقرّبة من بن سلمان وهم بمثابة الحلقة الامنية اللصيقة له، فيما يعتبر نشر التقرير بحدّ ذاته مشكلة كبيرة بالنسبة الى المسؤولين السعوديّين وبصورة أدق، بالنسبة الى بن سلمان حيث عاد التداول باسمه بصورة شاملة حول ضلوعه بالجريمة.

من المؤكّد انّ بايدن لا يرغب ولا ينوي خسارة مليارات الدولارات وافتعال مشاكل مجانيّة مع بلد يؤمّن له تدفق الاموال من خلال عقود او شراء ​أسلحة​، كما ان لهذا البلد ايضاً قيمة دينيّة ومعنويّة لدى الدول الاسلامية في العالم اجمع، وفي منطقة ​الشرق الاوسط​ تحديداً، اضافة الى انها طرف دائم في التعاطي مع ايران (السلبي والايجابي)، ناهيك عمّا يمكن ان تقوم به من ايجابيّات في مسألة تطبيع العلاقات مع ​اسرائيل​.

لكل ذلك، ومخافة ان تأخذ ​روسيا​ والصين بيد السعودية لاحتضانها، اتى هذا "القصاص" بالحدّ الادنى، مع العلم انه كان بامكان بايدن، فيما لو اراد، تصعيد الوتيرة واتّخاذ اجراءات اكثر قساوة بحقّ بن سلمان، منها على سبيل المثال لا الحصر: حجز امواله المنقولة وغير المنقولة في الولايات المتحدة، منعه من دخول ​اميركا​، وقف التعامل مع شركات يملكها او يشارك فيها... غير ان هذا الامر كان سيعني حتماً الابتعاد كلياً عن العاهل السعودي والمملكة بشكل عام، وخسارة الكثير من الاموال والموقع المعنوي والاستراتيجي الذي تؤمّنه السعودية. ولعلّ ما يمكن ملاحظته في هذا المجال، الردّ السعودي الخجول على نشر التقرير بشكل علني، ما يعكس الرغبة ايضاً في عدم المخاطرة بقطع الخطوط مع واشنطن، مع كل ما يعنيه ذلك من تراجع في النفوذ السعودي في المنطقة، والقلق من ان يكون اي تقارب اميركي مع ايران في ​المستقبل​ على حساب السعودية.

أرضى بايدن بخطوته هذه الاميركيين من جهة، من دون أن يصل مع السعوديين الى نقطة اللاعودة، انما عليه أن يقرّر كيفية التعاطي مع بن سلمان لأنه لا يمكنه تجاهله بطبيعة الحال، ولا بامكانه التعاطي معه وكأنّ شيئاً لم يكن، خصوصاً وأنّه سيكون الملك الجديد للسعودية في وقت ما.